منذ صغري كنت أرافق والدتي لزيارة ابنة عمتها لولوة، التي كانت تعيش في أحد أزقة المحرق، كانت والدتي تقدرها كثيراً، فتسلم عليها باحترام شديد، وتجلس أمامها بوقار، وتوصيني بالاتزان في الحديث أمامها، فتلك المرأة لها تقدير كبير بين الناس فهي من أهل العلم فالجميع يكن لها التقدير والإجلال. كانت تلبس الثوب النسائي الشعبي وتعلق أطراف الكم الأيمن للثوب على رأسها «الجبوعة»، كعادة نساء البحرين في ذاك الزمان، وكانت تغطي وجهها كاملاً بأطراف الثوب، حتى أن أحداً لم يرَ وجهها طوال حياتها، فلقد كانت لولوة بنت الشيخ ضريرة لا ترى، وكم كان يستهويني حديثها وحوارها مع والدتي، فحديثها يدل على مدى علمها وعمق فهمها لعلوم الدين والشريعة، فلطالما كانت تستشهد بالأدلة الشرعية من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية وأقوال التابعين.
وعلى الرغم من أنها سيدة ضريرة، إلا أنك تنبهر بنظافة وترتيب بيتها وملابسها، فسألت والدتي من يعينها على أعمال المنزل كالتنظيف والطبخ، والترتيب، قالت: إنها تعتمد على نفسها بشكل كامل في جميع الأعمال المنزلية من طبخ وتنظيف وغسل ملابس، وتأكل وتستحم وتلبس الملابس، وتتنقل بين غرف المنزل ومرافقة دون الحاجة لأي مساعدة، معتمدة على حدسها وفطنتها وحواسها الأخرى، فهي تتصف بالبصيرة وسعة المدارك. وقد كانت تعرف الناس الذين يزورونها من خلال لمس يدهم فتضع يدها على الوريد بمعصمهم فتميز الشخص وتعرفه من نبضه وحرارة يدهم، وكم حاول البعض خداعها إلا أنها تكتشف الحقيقة من خلال مسك يدهم، وعندما مرض خالها عبدالله حزنت عليه حزناً شديداً فأراد أحد أقاربها أن يطمئنها عليه فزارها في منزلها مقلداً صوته مدعياً أنه عبدالله ، فقد كان صوته يشبه خالها، إلا أنها سرعان ما عرفته من نبض وريد يده حتى أبهرت الجميع. نعم هي عالمة فطنة فلطالما حدثتني والدتي مريم بنت عبدالله بن عجلان رحمها الله، عن ابنة عمتها لولوة وعن مدى سعة اطلاعها على علوم الدين وخاصة في فقه النساء.
إنها العالمة البحرينية : لولوة ابنة الشيخ أحمد بن سلمان الكبيسي، والكبيسي هو أحد علماء الدين بالبحرين، وقبل أن نتكلم عن هذه العالمة الجليلة، دعونا نعرف بوالدها. هو الشيخ العلامة أحمد بن سلمان الكبيسي وهو من علماء الشرع، عاش في نهاية القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين تقريباً، حيث قدم إلى البحرين بعد وفاة زوجته والتي كان له منها ابنة واحدة فقط، وقد انتقل للعيش في البحرين بعد أن كبرت ابنته، عاش العلامة الكبيسي في فريج الظاعن بمنطقة المحرق بالبحرين، مقابل مسجد الظاعن، وتزوج من آمنة بنت إبراهيم بن حمد بن عجلان «عمة والدتي»، وأنجب منها ابنة واحدة فقط وهي لولوة، والكبيسي هو إمام مسجد الظاعن، وقد وصف في إحدى الوثائق: «بالعلامة أحمد الكبيسي» وهو مالكي المذهب رحمه الله تعالى، كان يجلس في مجلس بيته في فريج الظاعن قرب فريج «سمادو» لتعليم الناس علوم الدين، وللفتوى، ولإصلاح ذات البين وتقديم النصائح في حالة الخلافات الأسرية، كعادة علماء الدين آنذاك، كما كان يجلس في دار مخصص للعلم بفريج البن خاطر هذا الدار كان يجتمع فيها علماء الدين كل يوم اثنين ليلة الثلاثاء بعد صلاة العشاء لتدارس العلم ومناقشة قضايا الفتوى ومستجدات عصرهم. ومن الذين تتلمذوا على يده الشيخ عبدالله بن إبراهيم بن عجلان «جدي لوالدتي رحمهما الله» المولود عام 1913م وهو أخو زوجته: آمنة، وآمنة لها أربعة أخوة: عبدالله وسلمان وهما متزوجان من أختين شريفة وأسماء بنات علي صالح بوعنق، وموزة والمتزوجة من خليفة بن جهام الكواري، وشمة والمتزوجة من سيف المناعي. وقد تربى عبدالله بن عجلان أخو آمنة على يد الكبيسي، فتعلم منه علوم الدين، وجالسه في مجالس العلم، حتى أصبح أحد علماء البحرين ومشايخها، فقد أصبح إمام وخطيب مسجد جامع الشيخ عيسى بن علي آل خليفة أو ما يسمى «بالجامع الكبير» أو الجامع الشمالي، وهو يقع في شارع الشيخ عبدالله أي في ما يسمى سوق المحرق حالياً، كما كان يدرس علوم الدين في مدرسة الحالة الابتدائية للبنين الحكومية والتي تسمى المحرق التحضيرية سابقاً، ولم يقتصر رحمه الله على التدريس في مدارس التعليم النظامي بل كان يدرس في دار مخصصة لتدريس علوم الدين في فريج بن خاطر، توفي رحمه الله عام 1975م بالهند، وسنكمل الحديث عن لولوة بنت الشيخ في الأسبوع القادم في عمود إشراقة.. ودمتم سالمين.