كان المشهدُ عادياً لولا لحظةٌ صغيرةٌ كشفت كلَّ شيء: شابٌّ يتقدّم لوظيفةٍ مرموقة؛ سيرةٌ ذاتيّة مُحكمة، لغةٌ رزينة، وحضورٌ يشي بالثقة. قبل أن تحسم المقابلة؛ اقترح عضوٌ في اللجنة الاطّلاع على حضوره الرقمي؛ حساباتُه العلنيّة، مشاركاتُه وإشاراتُه الأخيرة. لم يبحثوا عن أسرارٍ ولا عن زلّاتٍ مُحرِجة؛ كل ما ظهر سلسلةٌ من إشاراتِ (الإعجاب) على محتوىً ساخرٍ مُبتذلٍ تارةً، وتارةً أخرى إساءةٌ لقيمٍ رصينةٍ يُفترض أن تكون بوصلتَه؛ وتعليقاتٌ تُبارك خفّةً تُكذّبُها سيرتُه المكتوبة. لم يُرفَض لأنّه أخطأ نقرةً أو اثنتين؛ بل لأنّ الهوّة اتّسعت فجأةً بين خطابه عن نفسه وأثره الحقيقيّ في العالم.

الثقافة، في معناها الأصدق، ليست رفوفَ كتبٍ، ولا أدباً مكتوباً، ولا شعاراتٍ مُعلَّقةً؛ بل نُسقٌ من الاختيارات الدقيقة يتكرّر حتى يصير طبعاً: ماذا نقرأ؟ من نتابع؟ لأيّ خطابٍ نمنح شرعيّةَ التفضيل؟ وأيَّ سلوكٍ نُعيد نشرَه ليغدو جزءاً من المشهد العام؟ وأعني بالثقافة هنا: الوعيَ القِيَميَّ والذائقةَ والسيرةَ المتكرّرة التي تصوغها العادة. فالثقافة، بهذا المعنى، ليست ما نحفظه، بل ما نُكرِّره حتى نحيا به ومنه.

الفلسفةُ القديمة تحدّثت عن «الهيكسيس»: هيئةٌ باطنةٌ تُنشِئها العادة. واليوم تتّخذ هذه الهيئةُ شكلَ بوصلةِ ذوقٍ تتغذّى من قراءاتِنا وأحكامِنا الصغيرة وتفاعلاتِنا الرقميّة. إنّ إشارةَ الإعجاب ليست بريئة؛ إنّها اقتراعٌ مُتكرّر على ما ينبغي أن يبقى في فضائنا النفسيّ والاجتماعيّ. ومع التكرار، تُعيد هذه البوصلةُ ترتيبَ خرائطِ الداخل: ما الذي نعدّه مهمًّا، وما الذي نراه «عادياً» ولو خالف قيمَنا المُعلَنة. وحين تتراكم هذه الأصواتُ الصغيرة، تنشأ ثقافةٌ إمّا ترفعنا وعياً ومكانةً، وإمّا تُسقطنا من غير ضجيج.

أخطرُ ما في الثقافة أنّها تعمل بصمت؛ مرآةٌ وصانعٌ معاً: تعكس ما فينا، وتُعيد صَوغ ما سنكون. لذا يَصدُق القول: إمّا أن تُمسك بزمامها، أو تُمسك هي بزمامك. من يُدير ثقافتَه يُحسن تعريفَ ذاتِه: ينتقي مصادرَه، يُهذّب ذائقتَه، ويضع معياراً لما يستحقّ التصديقَ والاحتفاء. أمّا من يتركها للتيّار، فيستيقظ على صورةٍ لا تُشبِهه، صنعتها الغفلةُ وشرعنها تصويتٌ ظُنَّ بلا كلفة.

وللثقافة بُعدٌ اجتماعيٌّ لا يقلّ أثراً: إنّها عملةُ المكانة في أعين الناس. ليست الألقابُ ولا الشهاداتُ وحدَها ما يرفع المرءَ، بل انسجامُ الخطاب مع الأثر واتّساقُ القيم مع السلوك. قائدٌ يُحسن تدبيرَ ثقافةِ مؤسّستِه - في اللغة المتداوَلة، في معاييرِ التقدير والمساءلة، في ما يُكافَأُ عليه وما يُستهجَن - يستطيع أن يُبدّل أداءَ فريقٍ كاملٍ بتغييرِ المناخِ الذي يتنفّسونه. وكذلك الفرد: يرقى في نظر الناس لا بسردِ ما يؤمن به؛ بل بما يُظهِره بتكرارٍ صبورٍ في اختياراتِه اليوميّة، ومنها أثرٌ رقميٌّ يسيرٌ في الظاهرِ جسيمٌ في الحقيقة. فالذائقةُ العامّة، في مجموعها، مرآةُ صورةِ الوطن في عيونِ أهلِه والناس.

قد يقول قائل: أليست الخوارزميّاتُ أغلَبُ سُلطاناً منّا؟ بلى؛ فهي تستدرجُ ذائقتَنا بما نُشبِهُه وبما يُرادُ لنا أن نُشبِهَه. غير أنّنا لسنا بلا عُدّةٍ ولا حيلة؛ فالإرادةُ الثقافيّة تُشيَّد من نُذُرٍ صغيرة: أن نتّبِع المُلهِمَ لا مُثيرَ الغوغاء، وأن نصطفي ما يُعمِّقُ لا ما يُشتّت، وألّا نمنحَ التافهَ صكَّ إعجابٍ يُشرعنُ خواءَه. تلك العهودُ ليست وعظاً مُجرّداً؛ بل هندسةَ وعيٍ تُحصّن حقَّنا في أن نكونَ اختيارَنا لا ما يُملى علينا. فلْنَزِنْ ما ننشرُه، وما نُعجَبُ به، وما نُداوِلُه بميزانِ الضميرِ والانتماءِ والدِّين: أَيَزيدُ المعنى ويُثمِرُ الوقتَ أم يُبدِّدُه في لغوٍ عاطل؟ أَيَصونُ مروءَتَنا ويحفظُ صورةَ وطنِنا، ويشهدُ لتقوانا وأمانةِ الكلمة، أم يقتطعُ من رصيدِنا عندَ اللهِ وعندَ الناس؟ وهل يأتلفُ مع انتمائِنا أن يُقرَنَ بنا وباسمِ وطنِنا إذا جُرِّد من سياقِه وبقي اسمُنا عليه شاهداً، ونحنُ مأمورون أن نقولَ خيراً أو نَصمُت؟