نُمسك بهواتفنا، نمرر الشاشات لنشاهد حياة الآخرين. نلاحظ أموراً كثيرة، سفر ونجاحات وابتسامات ومناسبات مبهجة. سنجد صوراً ومقاطع فيديو تجعلنا نصدق، ولو للحظة، أن هناك من يعيش حياة خالية من الهموم.لكن السؤال الفعلي هو: هل ما نراه هو الواقع حقاً، أم مجرد مشهد مُنتقى بعناية؟! بصيغة أكثر وضوحاً: ما هي الحقيقة القابعة خلف هذه «الفلاتر»؟!

أتحدث عن مشكلة أو تحديداً «هوس» يعاني منه كثيرون، بل هو «خطر» لو أردتم الحقيقة، وتحديداً في حالة من يتأثرون بكل ما يرونه، ومن يصدقون ما يمر عليهم، والأدهى من يحاولون المقاربة وتطويع حياتهم بحسب ما يعتبرونه «المثالية المطلقة»، بغض النظر إن كانت «زائفة» أو «مصطنعة»!

الدراسات النفسية الحديثة تؤكد هذه الظاهرة، إذ تربط الاستخدام المفرط لوسائل التواصل بارتفاع معدلات القلق والاكتئاب، خاصة بين المراهقين. وهي تكشف أن المتابعة اليومية لحسابات الآخرين تجعل عقولنا تدخل في مقارنات غير واعية. نصبح أسرى شعور بالنقص، نرى الآخرين يحققون ما نتمناه فنشعر بأننا متأخرون عن «الركب».

البعض يقيس نجاحه بعدد الإعجابات أو المتابعين، فيختلط تقديره لذاته بمعايير سطحية لا تعكس قيمته الحقيقية. ثم إن ما يُعرض أمامنا ليس إلا نسخة محسنة من الواقع. الصور تُلتقط بعد عشرات المحاولات، والفيديوهات تُمنتج بعناية لتُظهر اللحظات الأجمل فقط، بينما الفشل والخلافات والتعب تبقى خارج الكادر. نحن أمام تجميل انتقائي لا يرقى إلى الكذب الصريح، لكنه يضللنا عن رؤية الصورة الكاملة.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار ما تقدمه هذه المنصات من فوائد الاطلاع على ثقافات مختلفة، بناء صداقات وفرص مهنية، وتعلم مهارات جديدة عبر محتوى تثقيفي متاح بضغطة زر.

المشكلة تبدأ فقط حين ننسى أن ما نشاهده ليس الحقيقة الكاملة، بل مجرد مقاطع مختارة من حياة الآخرين.

الحل ليس في القطيعة مع وسائل التواصل، بل في إدراك حدودها. علينا أن نتذكر أن كل ما يُنشر هو خيار شخصي يعكس ما يرغب صاحبه في إظهاره، لا حياته كاملة. من المهم أن نقلل من وقت التصفح، وألا نبدأ صباحنا بمقارنة أنفسنا بالآخرين، وأن نركز على واقعنا نحن. الأفضل أن نصنع قصتنا الخاصة بدلاً من الانشغال بمتابعة قصص الآخرين، وأن نختار من نتابع بعناية، بحثاً عمن يلهمنا بدلاً من أن يثير فينا شعور النقص.

الحياة الحقيقية تُعاش خارج الشاشات، وسط ضحكات غير مصورة، إخفاقات غير معلنة، وأحلام لا تنتظر «إعجاباً» لتُزهر.

خلف «الفلاتر» دائماً هناك قصة أعمق، وواقع لا يظهر إلا لمن يرفع عينيه قليلاً عن هاتفه.