لطالما أولت مملكة البحرين ثروتها البحريّة مكانةً خاصّة ضمن رؤيتها البيئيّة والتنمويّة؛ إدراكاً لدورها الحيويّ في تحقيق الأمن الغذائيّ ودعم الاقتصاد الوطنيّ وحفظ التوازن البيئيّ. وتأكيداً لهذا النهج، وفي ظلّ التوجيهات السديدة لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه اللّه ورعاه، والمتابعة المستمرّة لصاحب السموّ الملكيّ الأمير سلمان بن حمد آل خليفة وليّ العهد رئيس مجلس الوزراء، يواصل المجلس الأعلى للبيئة جهوده لتعزيز قطاع الصيد البحريّ التجاريّ، من خلال تبنّي السياسات والقرارات التنظيميّة، الّتي تضع الصيّاد البحرينيّ محوراً أساسياً تستند إليه نجاح كافّة الجهود.
فخطوة «ترخيص الصيّاد البحرينيّ» ليست إجراءً إدارياً عابراً؛ بل رافعة تنظيميّة لضمان استدامة المخزون السمكيّ وتعزيز الأمن الغذائيّ وتثبيت مكانة البحرينيّ في مهنته التاريخيّة. فالقرار رقم (4) لسنة 2025 الّذي دخل حيز التنفيذ في 28 أغسطس 2025، بعد ستّة أشهر من صدوره، يُحوّل الالتزام إلى واقعٍ مُلزِم لكلّ الصيّادين المسجّلين، ويُغلق فجوات استُغِلّت لسنوات على حساب البيئة والرزق الوطنيّ.
الأهمية الأولى للقرار أنه يُعيد تعريف مَن هو «الصياد المحترف» في القانون: بحرينيّ الجنسية، بلغ 18 عاماً على الأقل، صالح صحياً ومهنياً لممارسة الصيد، ويحمل ترخيصاً شخصياً لا يجوز نقله أو التنازل عنه. هذه الشروط تقطع طريق «تأجير الرخص بالباطن»، وتضع المسؤولية المهنية مباشرة على من يمارس الصيد فعلاً، لا على اسمٍ مُستعارٍ في الورق.
ثانياً، يضع القرار سقوفاً واضحة لأعداد أفراد الطاقم على ظهر السفينة وفق طولها، من 3 أفراد للقوارب حتى 21 قدماً وصولاً إلى 9 أفراد لسفن «البانوش». هذا الضبط ليس تفصيلاً لوجستياً؛ إنه أداة لضبط الجهد الصيدي ومنع الاستنزاف عبر طواقم كبيرة تستغل أدوات أكثر من قدرة المصايد على التجدد.
ثالثاً، يعالج القرار حلقة الإجراءات بوضوح: يُثبَت في الترخيص بيانات الصياد وصاحب العمل، ويُحظر على الصياد العمل لدى غير المبيّن في الترخيص، وتُحسم طلبات الاستخراج أو التجديد خلال 15 يوماً وفق المرسوم بقانون (20) لسنة 2002. هذه السرعة والشفافية تقلّلان الكلفة البيروقراطية وتشجّعان الامتثال الطوعي.
رابعاً، ينسجم القرار مع حزْمٍ مكمّلة كقرار رقم (6) لسنة 2025 المنظم لاستخدام الشباك والقراقير والحظور وخيوط الصيد، بما يعزّز منظومة الرقابة ويحدّ من الممارسات العشوائية. الربط بين «مَن يصطاد» و«كيف يصطاد» هو ما يصنع الأثر: صياد بحريني مسؤول، وأدوات مصرح بها، وجهد صيدي مُقنّن؛ ثلاثية تُترجم إلى مصايد قادرة على التعافي، وإلى سوق محليّ أكثر جودة واستقراراً في الأسعار.
خامسًا، يُعيد القرار تمكين البحرينيين من قطاعهم: شرط وجود صياد بحريني على ظهر سفينة الصيد يُعزّز نقل الخبرة وتدريب الأجيال، ويقلّص التجاوزات المرتبطة بطرق صيد مُضِرّة، كما أكّد مسؤولو الثروة البحرية؛ وهو مسار واقعيّ لتحقيق هدف الأمن الغذائي المحلي تحت مظلة التنمية المستدامة.
أخيراً، جانب الردع حاضرٌ بوضوح؛ إذ تُسند المخالفات إلى منظومة عقابية منصوص عليها في المرسوم بقانون (20) لسنة 2002، بما يرفع كلفة السلوكيات غير القانونية، ويُحافظ على عدالة المنافسة بين الملتزمين. إنّ وضوح القواعد، وسهولة الإجراءات عبر البوابة الوطنية، واقتران ذلك برقابة فعّالة، هي وصفة لتحويل البحر إلى موردٍ متجدد فعلاً، لا ساحة استنزاف.
بهذا المعنى، لا يُعدّ «ترخيص الصياد البحريني» فقط بطاقة تعريف، بل هو عقدٌ اجتماعيّ جديد يَصل الدولة بالبحّارة والبحر؛ عقدٌ يُكرّم المهنة، ويصون البيئة، ويعزّز أمننا الغذائي، ويضع البحريني في قلب القرار والتنفيذ. والرِّهان اليوم على تعاون الجميع والالتزام الواعي بالتشريعات، فوعي المجتمع واحترام الضوابط هو ما سيُرسّخ مكانة البحرين نموذجاً رائداً في حماية مواردها البحرية وإدارتها المستدامة، ويضمن بقاء المهنة مصونةً للأجيال القادمة.