الحديث عن بدايات العام الدراسي الجديد في كل عام، حديث ذو شجون، مفعم بالذكريات الجميلة والمواقف التي لا تُنسى. وعندما هتفت بي المشاعر لأكتب بعض السطور عن تلك الذكريات، دفعني الحنين إلى البحث عن الصور الجميلة لتلك الحقبة، والرجوع إلى عدد من الإصدارات المدرسية التي مازال أثرها راسخاً في نفسي.
عندما كتبت الجزء الأول من مقالي في الأسبوع الماضي، وصلتني رسالة، من أحد الطلبة الأعزاء الذي أصبح اليوم قامة إعلامية متميزة، وهو الطالب النجيب عبدالله البابطين، الذي أشرفت على تدريسه في برنامج التربية العملية لنظام معلم الفصل، وذلك في العام الدراسي 1995-1996 بمدرسة عمر بن عبدالعزيز الابتدائية للبنين. وقد كانت تجربة مليئة بالمتعة والأثر الجميل، وتطبيق الأفكار التربوية والتعليمية المبدعة.
يقول في رسالته: «بالمناسبة، كنت في صفك في مجموعة «الأمانة». درستنا سنة واحدة فقط، ولكنك تركت فينا أثراً لم يتركه أساتذة قضينا معهم سنوات طوال. ومازلت أتذكر الجائزة التي أعطيتني إياها في حلقة التحفيظ في مسجد الإيمان، وكانت عبارة عن «شكولاتة الأسد»، لأني سمّعت سورة «عم يتساءلون» كاملة. أنت مدرسة وصاحب أثر حقيقي.. أنا أفتخر وأعتز بك».
حقيقةً، مثل هذه الكلمات الجميلة والمعبّرة، التي تأتيك من أحد تلامذتك المجدين والمتميزين، وفي بداية الانطلاقة الحقيقية للتدريس في الحقل التعليمي، هي كلمات تحتاجها بين الحين والآخر لتجدّد نشاطك وعطاءك في هذه الحياة، ولتواصل العمل الجاد المتقن في كل الرسائل التي تحب أن تقدمها ما دمت تتنفس الحياة.
تجربتي في مدرسة عمر بن عبدالعزيز، القريبة من بيتنا في حالة بوماهر، كانت تجربة ثرية بالعطاء والخبرات المتنوعة، على الرغم من قصرها. وكانت المدرسة آنذاك تعج بالمدرسين الأكفاء القدامى، أصحاب الخبرات التربوية الطويلة، منهم الأستاذ عبدالله بن يوسف الماجد، صاحب الشخصية البسيطة والمتواضعة في تعامله مع المدرسين، والأستاذ عبدالكريم رمضان، الذي أكرمني الله بصحبته فيما بعد في مدرسة البسيتين الابتدائية عندما توظفت، والأستاذ ناصر ردعان الدوسري الذي قمت بالتدريس في صفه، والأستاذ العزيز أحمد محمود، والذي زاملته أيضاً في مدرسة البسيتين، وغيرهم.
أما تجربة المجموعات فكانت هي أساس الفكرة التي انطلقت بها في إدارة الصف المدرسي، حيث كانت مجموعة ثابتة للطلبة طيلة العام الدراسي، نتعامل بمعانيها طوال العام، فضلاً عن تعزيز انتماء الطالب لاسم المجموعة. أضف إلى ذلك عدداً كبيراً من الأفكار الأخرى، منها تسجيل الدرس وفق شخصيات خاصة على شريط (كاسيت)، وتضمينه عدداً من القيم التربوية والأخلاق الحميدة، وتسميتها بمسميات لها أثر في نفوس الطلبة.
أما مدرسة البسيتين الابتدائية للبنين، فهي الأخرى زاخرة بالذكريات الجميلة التي لا تسعفني السطور المحدودة لإعطائها حقها. وقد تواصل معي الأستاذ العزيز عبدالله المانع، سكرتير المدرسة آنذاك، والذي كان نعم الإداري في مهنته، مرناً ومتعاوناً في تذليل الصعاب للمدرسين، وبخاصة مدرسي معلم الفصل الذين يحتاجون في الغالب إلى طباعة الكثير من الأوراق الخاصة بالأنشطة الصفية. وقد ذكّرني بعدد من المدرسين الأجلاء أصحاب الخبرات في تلك الحقبة الجميلة، والذين لم أذكرهم في مقالي الأول. رحم الله من توفي، وأمد في عمر البقية في طاعته، وهم: خليفة الشبعان، وعبدالرحمن المنصور، ومحمود جعفر، وبدر علي حمد، وسويد العميري، ومساعد الزباري، ونايف بوعسلي، وعيسى الشايجي، وجاسم العجلان، وطلعت سلطان، ومحمد فوزي، ومحمد سيار، ومصطفى مرهون، ومبارك الكواري، وياسر أحمد، وأسامة عبدالله، وعدنان البلوشي، وغيرهم.
العطاء في مدرسة البسيتين لم يكن عطاءً عادياً، بل كان عطاءً يستظل تحت مظلة الخير والقيم التربوية، حيث اعتدنا أن نكون مربين أولاً، نحرص على أن يتعلم الطلبة في كل يوم قيمة تربوية جديدة يحملونها معهم إلى منازلهم، فيرى أثرها أهلهم وذووهم، فيتواصلون مع المدرسة ويثنون على أسلوب التعليم.
المدرس اليوم يجب أن يتفرد بأسلوبه في تعليم الطلبة، فيدمج بين القيم التربوية والأخلاقية، والمنهج المدرسي، والأفكار المساندة للتعليم (خارج الصندوق)، وبين تواصله المستمر مع أولياء الأمور. وكنت في تلك الحقبة أستخدم أسلوب النشرة الأسبوعية المطبوعة في كل أسبوع، حيث أُدرج فيها المتطلبات الأسبوعية المنزلية، والدروس المقررة، إضافة إلى استعراض أسماء نخبة الطلبة الذين تميزوا خلال الأسبوع الفائت.
ومن اللافت أن كل مدرس كانت له تجربة مغايرة عن الآخر، وبخاصة الجيل القديم، حيث استفدنا منهم بقربهم من الطلبة، فعندما تدخل الصف تجد نفسك في أسرة واحدة تتدارس التربية والتعليم.
أجمل ما في تلك الحقبة كانت البساطة والألفة التي جمعتنا بالإدارة المدرسية والمدرسين وأولياء الأمور، الذين اعتادوا التواصل المستمر والسؤال عن أبنائهم. وكم تمنيت لو كانت بيدي الوسائل التكنولوجية الحديثة كما هي اليوم، فهي أجمل استثمار في تدريس الأجيال.
نحتاج أن تكون مهنة التدريس مهنة جاذبة للأجيال، تشجعهم على الالتحاق بالتعليم في المدارس الحكومية والخاصة، وذلك بإعطائها مزيداً من المميزات، إضافة إلى ضرورة أن يتحلى المدرس بشخصية تجمع بين إيصال المعلومة والتربية في آن واحد.
ولنا وقفات أخرى متكررة لننشر الخير ونترك الأثر في مواطن متعددة، منها حلقات تحفيظ القرآن الكريم وغيرها.
ومضة أملمهنة التدريس مهنة سامية، تعطيك بُعداً وأثراً حقيقياً في حياتك وحياة الآخرين. فاللهم تقبّل ما مضى، وأعنّا فيما تبقى على كل عمل يُقرّبنا إليك.