تفاجأ الجميع بالقصف الذي استهدف الدوحة، ففَتَحَ باباً جديداً في مشهد الصراع المشتعل منذ سنوات، إذ خرجت الرسالة من حدود غزة التي اعتدنا أن تكون ساحة المواجهة الدائمة، وامتدت إلى قلب الخليج العربي حيث تتداخل السياسة بالدبلوماسية بالتحالفات الدولية، لتقول إن كل المدن العربية يمكن أن تكون في دائرة النار إذا بقي الموقف العربي والدولي محكوماً بالتفرج والصمت.

في السابع من أكتوبر وتحديداً في غزة كانت البداية، هناك تحولت المأساة إلى اختبار للإنسانية والقانون الدولي، ومع مرور الوقت صار العدوان يتوسع على خريطة المنطقة من سوريا ولبنان إلى إيران، وللمرة الثانية تُختبر سماء قطر، بعد أن كانت الصواريخ الإيرانية قد استهدفت قاعدة العديد في وقت سابق، لتأتي الضربة الأخيرة فتؤكد أن المظلة الأمريكية لم تعد ضماناً للأمن، وأن العواصم الخليجية مكشوفة أمام نار إسرائيل التي لا تعرف حدوداً.

المواقف الدولية بدت مترددة، مجلس الأمن اجتمع وأصدر بياناً خجولاً، ووكيلة الأمين العام تحدثت عن صدمة عالمية، فيما استُقبلت الحادثة في الشارع العربي بقلق عميق وشعور بأن قواعد اللعبة تتغير بسرعة، دول الخليج العربي كلها تضامنت مع الدوحة ونددت بهذا الهجوم الغادر، وبعض الدول الأخرى عبّرت عن تضامنها، لكن الصورة العامة تكشف تشتتاً يتيح لإسرائيل أن تتمادى في خطواتها من دون حساب، وهو ما يشجعها على تجاوز كل الحدود مرة بعد أخرى.

وبينما كانت سماء الدوحة ملبدة بدخان الصواريخ، كانت قاعة الأمم المتحدة في نيويورك تشهد تصويتاً تاريخياً، صوتت 142 دولة تؤيد إعلاناً واضحاً وملزماً نحو حل الدولتين، مع إدانة شاملة للعدوان على غزة وتجويع سكانها، ومطالبة بوقف الحرب فوراً، دول أوروبية عدة أعلنت نيتها الاعتراف بدولة فلسطين خلال أسابيع، من فرنسا وألمانيا إلى بلجيكا والبرتغال وكندا، ولكن المفارقة أن العالم بدا أكثر انسجاماً في دعم فلسطين من الموقف العربي نفسه، الذي ظل منقسماً ومتردداً.

إيران سبق وتعرّضت لضربات مشابهة، وسوريا ولبنان عاشتا سنوات طويلة تحت وطأة الغارات، لكن وصول الطائرات إلى الدوحة يعني أن المظلة الأمريكية التي استندت إليها دول الخليج لم تعد كافية، وأن القواعد العسكرية والتحالفات السياسية لا تمنح حصانة أمام قرار إسرائيلي متهور ومنفرد، هذا التحول يضع المنطقة كلها أمام سؤال مصيري: كيف تُبنى الحماية الحقيقية إذا كانت التحالفات الخارجية عاجزة عن منع صاروخ واحد؟

الخطر لا يقف عند حدود قطر، الخطر اليوم يتجاوزها إلى الإشارة بأن أي أرض عربية يمكن أن تكون مستهدفة، حتى لو كانت مكة أو المدينة، ما دام الموقف الجماعي غائباً والإرادة السياسية موزعة، وهنا تتضح ضرورة التضامن بشكل واقعي بعيداً عن الرمزية والبيانات العاطفية، باعتباره شرطاً لردع أي محاولة لتوسيع العدوان الإسرائيلي تجاه العرب والمسلمين.

وفي تصريحٍ يستدعي ذاكرة ما بعد 11 سبتمبر، حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يرسم موازاة بين استهداف حركة حماس والتعامل الأمريكي مع تنظيم القاعدة منذ تلك الهجمة الإرهابية التي قلبت العالم، فقالت إسرائيل في تبريرها للقصف إن الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر لاحقت الإرهاب في كل مكان، وإنها ستفعل الأمر نفسه مع حماس، وهذه المقولة تكشف محاولة خطيرة لتقنين ضرب العواصم العربية بذات المنطق الذي استُخدم لتبرير التدخلات الأمريكية حول العالم، مع فارق أن واشنطن بنت تحالفات دولية واسعة تحت مظلة الأمم المتحدة، بينما تتصرف تل أبيب منفردة، في تحدٍّ للقانون الدولي، وبلا اكتراث لسيادة الدول أو استقرار الإقليم.

إن الدفاع عن الدوحة هو دفاع عن السيادة العربية في عمقها، وإذا قُبل استهداف عاصمة خليجية بصمت، فإن الباب سيُفتح لما هو أبعد وأخطر، فالمنطقة اليوم بحاجة إلى أن تأخذ موقفاً شجاعاً، وأن تبني مظلة جماعية تحميها من الانكشاف، لأن ما يجري لم يعد معزولاً في غزة أو محصوراً في حدود ضيقة، فالعدوان الإسرائيلي اليوم صار يهدد مستقبل الإقليم كله، وهو ليس مجرد رد فعل عابر بقدر ما هو امتداد لرؤية توسعية قديمة تتحدث عن «إسرائيل الكبرى» التي لا تقف عند حدود فلسطين، فهي عقيدة راسخة في وجدان الصهاينة تتطلع إلى رسم خرائط جديدة على حساب الجغرافيا العربية بأسرها.