العلاقاتُ البحرينيةُ اليابانيةُ قصةٌ نسجت خيوطها الأولى في ثلاثينات القرن الماضي، وذلك عندما أبحرت أول شحنة من نفط البحرين عبر المحيطات لتحط في ميناء يوكوهاما الياباني عام 1934، تلك اللحظة التاريخية دشّنت جسراً تجارياً وثقافياً بين المنامة وطوكيو، وكونت رابطاً بين جزيرةٍ خليجيةٍ فتيةٍ وإمبراطوريةٍ عريقة، ومهّدت لتواصلٍ استمر في النمو منذ ذلك الحين.
وفي مطلع السبعينات ومع انتهاء معاهدة الحماية البريطانية، تُوّجت تلك العلاقة القديمة بتأسيس علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين عام 1972، وسرعان ما نمت تلك العلاقات لتشمل مجالات الاقتصاد والتجارة والثقافة والتكنولوجيا، مدعومةً بتبادل الزيارات الرفيعة التي عزّزت أواصر الصداقة المتينة، وعلى مر العقود، أصبحت اليابان شريكاً تجارياً رئيسياً للبحرين، وتُوّج التعاون الثنائي مؤخراً بالارتقاء إلى شراكة استراتيجية شاملة، في دلالة على عزم المنامة وطوكيو المضي قُدماً في توسيع آفاق التنسيق والتنمية المشتركة.
في هذا الإطار التاريخي الغني، جاءت زيارة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء إلى اليابان لتضيف فصلاً جديداً إلى سجل العلاقات، فقد حظي سموه باستقبال حافل والتقى جلالة إمبراطور اليابان ناروهيتو، وصاحب السمو الإمبراطوري الأمير فوميهيتو ولي عهد اليابان، ورئيس وزراء اليابان شيجيرو إيشيبا، ووزير خارجية اليابان تاكيشي إيوايا، ووفداً من جمعية رؤساء الشركات اليابانية «كيزاي دويوكاي»، ما عكس دفء الصداقة والتوافق بين قيادتي البلدين، وتزامنت هذه الزيارة مع معرض إكسبو 2025 في أوساكا، حيث حضرت البحرين بثقلها الثقافي على مسرحٍ دولي جامع.
وبرعاية كريمة من سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، أقامت البحرين احتفالية كبرى في إكسبو أوساكا بمناسبة يومها الوطني، حيث قدّم جناح البحرين في أوساكا برنامجاً ثقافياً متكاملاً أوصل رسالة المملكة إلى جمهور المعرض عبر الموسيقى والتجارب المتنوعة، وتضمّنت الاحتفالات بعروض موسيقية حيّة قدّمتها فرق بحرينية متنوعة جسّدت ثراء المشهد الفني الوطني، من فنون البحر والغوص والفلكور الشعبي والغناء الحديث، فأكدت هذه التوليفة المتناغمة بين التراث والحداثة حضور الموسيقى البحرينية كجسر للتواصل الحضاري مع العالم.
ومن الأمور التي لفتت أنظار حضور إكسبو 2025 أوساكا، كانت الفرقة الموسيقية للشرطة التي استهلّت عروض اليوم الوطني ناشرةً أجواءً احتفالية بطابع بحريني أصيل، فسجّلت الفرقة الموسيقية للشرطة حضوراً مميزاً ولافتاً في أوساكا، إذ قدّمت سلسلة عروضٍ تمزج بين موسيقى الشرطة العسكرية والألحان الشعبية البحرينية الأصيلة، وأظهرت هذه العروض ملامح الهوية الفنية البحرينية وثراء إرثها، في توليفة إبداعية راقية أسرَت أسماع الجمهور الدولي، كما عكس الأداء صورة البحرين العصرية المتحضرة وهي تحتفي بجذورها التقليدية، ما أكسب الفرقة إشادةً عالمية لما تتمتع به من احترافيةٍ وتميّز، وهذا التألق لم يأتِ من فراغ؛ فهو ثمرة تاريخٍ عريقٍ وإنجازاتٍ راكمتها الفرقة عبر العقود، وتعود جذور فرقة شرطة البحرين الموسيقية إلى عام 1928، حين أسّسها مستشار حكومة البحرين آنذاك السير تشارلز بلغريف، حيث تكوّنت النواة الأولى من 18 شاباً بحرينياً من أفراد الشرطة، مما جعلها أول فرقة موسيقية عسكرية في منطقة الخليج العربي، ومع مرور السنين، نمت الفرقة عدداً وعطاءً؛ فبحلول 1950 بلغ عدد أعضائها 25 موسيقياً، ثم ارتفع إلى 116 عازفاً عام 1964.
وخلال مسيرتها قدّمت فرقة الشرطة البحرينية لوطنها واجهةً مشرّفة في المحافل المحلية والدولية، فعزفت أمام الملوك والرؤساء تاركةً انطباعاً مبهراً لدى كل من استمع إليها، وفي عام 1981 تربّعت الفرقة على عرش التميز بفوزها بالمركز الأول بين فرق 20 دولة في مسابقة للموسيقى العسكرية أقيمت في دبي، ما رسّخ مكانتها كإحدى نخب الفرق العسكرية الموسيقية عربياً وعالمياً، كما باتت الفرقة عنصراً ثابتاً في المناسبات الرسمية والوطنية، تضفي بألحانها المهيبة طابعاً مميزاً على تلك الاحتفالات. واليوم تأتي مشاركتها في إكسبو أوساكا امتداداً لهذا الدور، إذ تحمل أنغامها رسالة البحرين الثقافية إلى فضاء عالمي رحب.
وهكذا فإن مشهد الفرقة الموسيقية للشرطة وهي تعزف ألحان الوطن في قلب أوساكا يتجاوز حدود كونه عرضاً فنياً عابراً ضمن معرضٍ دولي، ليصبح رمزاً لمكانة البحرين الثقافية على الساحة العالمية، فكما وصل صوت البحرين إلى اليابان أول مرة مع سفينة نفط قبل تسعين عاماً، ها هو اليوم يصدح عبر أوتار العود وإيقاعات الطبول، حاملاً تراث اللؤلؤ وأغاني البحّارة إلى أسماع العالم.
إنها لحظة تتقاطع فيها خيوط التاريخ مع أصداء الحاضر، تؤكد أن مملكة البحرين رغم صغر حجمها الجغرافي تمتلك رصيداً حضارياً ثرياً يخاطب العالم بلغة الفن والإبداع، وبذلك تختتم زيارة ولي العهد فصلها الثقافي موثّقةً أن جسور الصداقة التي امتدت عبر العقود يمكنها أن تحمل نبض الثقافة تماماً كما حملت ذات يوم نفط البحرين إلى الشرق البعيد.