بدر علي قمبر

عندما نتحدث عن الوفاء، فإنما نتحدث عن عملة نادرة وقيمة عاطفية سامية تتجلى في القلوب عند تبادل المحبة مع من نحب، فتنعكس على تعاملنا، وتواصلنا، ودعواتنا، وعمق محبتنا. إن الوفاء يُلمس في الرخاء قبل الشدة، وما أجمل وفاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، سواء في الغزوات أو في رحلة الهجرة العظيمة، التي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم فيها رفيقاً لدربه. وما أجمل ما قاله صلى الله عليه وسلم في محبته لأبي بكر الصديق: "هل أنتم تاركون لي صاحبي؟ إني قلت: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعاً، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت". حديث يعكس عمق الوفاء بين النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق، وفاءً يغامر فيه الصديق بالخير، وحرصاً على ألا يمس جسد النبي صلى الله عليه وسلم أي أذى طيلة مرافقته له.

الوفاء ليس مجرد سطور تُكتب، بل أفعال تُرى، تظهر في كل المواقف، وتكشف عمق الصدق في المحبة المتبادلة بين الأطراف. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن من يؤتمن على نفسه وماله وولده". ومن هنا، فإن الوفاء والأمانة جزء أصيل من الإيمان، فلا ينبغي التهاون في هذه القيم، فهي من مكملات إيمان المؤمن، وقد وردت العديد من الأحاديث النبوية التي تؤكد قيماً وأفعالاً يستكمل بها المؤمن إيمانه عند التحلي بها.

وفاء الحياة يظهر في مواقف عديدة، وقد يكون له أثر كبير على النفس، فهو أحياناً يزيل عن القلب تعب الأيام، وينفض غبار الكسل، ويجدد العطاء والعزيمة، ويذكّر بمواقف الخير التي انطلقت منها مسيرة الحياة الزاخرة بالعطاء. أحياناً لا نلتفت إلى هذه المقامات، ونعتبرها من الأمور الهامشية، لكنها غالباً ما تكون ركناً أساسياً في تحسين المزاج وتجديد الإيمان والنفس وقدرتها على مواجهة الحياة.

سطور الوفاء تُكتب غالباً لتلك القلوب المحبة، التي ربما تناست محبتها مع مرور الأيام، أو شغلتها مشاغل الحياة عن تذكر قلبك المُحب، أو لتلك التي أحبّتك بصدق، ولم تترك الحديث عن مآثرك، واستقبلتك بذراعين مفتوحتين واحتضان دافئ، وقبلة حانية على الجبين، وذكريات الخير التي جمعتكما، لتتجدد أيامكما بلقيا الخير في مسير الحياة.

حقاً إنهم أوفياء.. أحبابك من أسرتك وعائلتك الممتدة، الذين يتذكرون لحظاتك الجميلة ويحتفلون بها، ويجهزون كلمات الحب والثناء في كل مناسبة، فهم أصل الوفاء الذي لا يتغير رغم مرور الأيام، فالأسرة هي ملاذ الإنسان الآمن، وأجمل ملاذ له.

أما الأصدقاء، فهم لا يتوانون عن التواصل معك، ولقياك بين الحين والآخر، سواء برسالة لطيفة، أو زيارة خاطفة، أو لقاء عشاء. الوفاء معهم له مذاق خاص، بنكهة الأحاديث اللطيفة والضحكات المتبادلة. وقد لا تدرك محبة بعضهم إلا حين تراهم يأتون إليك من بعيد ليصافحوك ويحتضنوك، بينما يتجاهل آخرون المبادرة بالسؤال والسلام، رغم الأيام الجميلة التي جمعتكم، وربما تناسوا جهودك ووفاءك في لحظات معينة، دون تقدير أو تكريم لما قدمت.

أما تلامذتك، فهم صنوف: منهم من يتذكر أدق المواقف، فلا يترك شاردة أو واردة إلا استحضرها، ويستذكرها بعد سنوات، تقديراً وامتناناً لأستاذه الذي علّمه الخير، ودلّه بعد فضل الله تعالى إلى خطوات الاستقامة. وشاءت الأقدار أن يتلاقى الوفاء في ميدان الإنسانية، لتظل ذكرى تلك المواقف الجميلة صفحة مضيئة للعطاء المكسو بالوفاء الصادق. وقد ينبع الوفاء من مواقف بسيطة تترك أثراً طويل الأمد، لتصبح واحة للوفاء في ذاكرة صاحبها. وعلى النقيض، قد تجد تلامذة آخرين ينقطعون عن التواصل مع معلميهم، ولم يسعوا حتى لزيارة أو السؤال عمن علمهم، أو إرسال رسالة تقدير وامتنان، ويظل الوفاء لله تعالى وحده أولاً وأخيراً، نحيا به لنعيش بمعانيه ونستمتع بخير الدنيا ونرجو أثره في جنة خالدة.

ومضة أمل

ما دعاني لكتابة سطور الوفاء ثلاثة مواقف مؤثرة صدرت من ثلاثة أشخاص أحبهم قلبي: علاء بودلامة، وإيمان الخاجة، وياسر الكوهجي، في دورة تدريبية جمعتنا معاً، وكان السؤال: من الذي ترك أثراً في حياتك؟ شكراً لكم على اختياركم لأخيكم، فقد أحييتم في نفسي الكثير، وحمدت المولى الكريم على وجود من يبادلني شعور الوفاء والمحبة، ويفهم الأثر الجميل الذي نتركه في أيام حياتنا. حقاً هم الأوفياء، وأعتز بهم كثيراً، فلكل واحد منهم أثر عميق في حياتي، فقد زاملتهم في عمل الخير، ولكل منهم بصمته المميزة، وإخلاصه وصدقه في الحياة. ربي يجزيكم كل خير وينفع بكم، فقد أسعدتموني أسعدكم الرحمن.