عبدالله صويلح
- شهدت المجتمعات الإنسانية في الماضي أنماطاً من التعايش البسيط والشفاف، حيث كانت القلوب صافية والنفوس أكثر رضا. كان الفرح يُقابَل بالتهنئة الصادقة، والحزن يُواجَه بالتعاطف والمساندة، وكان النجاح يلقى تقديراً وتشجيعاً لا حسداً أو تدقيقاً مفرطاً. فقد كان من يمتلك العزيمة والإصرار يرتقي إلى القمم بجدارة، مستنداً إلى قناعة جماعية بأن لكل مجتهد نصيب.
- غير أن المشهد تغيّر اليوم بصورة جذرية، إذ أضحى كثير من الأفراد يعيشون تحت ما يمكن تسميته بـ»المجهر البشري»، حيث تكون حياتهم الخاصة بتفاصيلها الدقيقة. فالمجهر، الذي أُنشئ في الأصل لتكبير الجزئيات الدقيقة خدمةً للعلم والمعرفة، تحوّل إلى أداة رمزية يستخدمها البعض في تضخيم هفوات الآخرين، وفتح حياتهم على الملأ، بدلاً من أن يكون وسيلة لتطوير الذات أو المجتمع.
- لقد أثبتت التجارب التاريخية أن قلة الإمكانات لم تكن عائقاً أمام الإبداع، إذ خلّد المستكشفون والعلماء إنجازات مازالت البشرية تجني ثمارها حتى اليوم. أما في عصرنا الحاضر، ومع وفرة الأدوات والتقنيات، نجد أن المراقبة المفرطة والتدقيق المستمر في حياة الآخرين يعرقلان مسيرة الإبداع، ويحدّان من بروز العقول المبتكرة. وهكذا أصبح «المجهر البشري» أحد أبرز معوقات التقدم.
- وتكمن خطورة هذه الظاهرة في تكريس روح التنافس السلبي، حيث يغدو فشل الآخرين مادة للتشفي بدلاً من أن يكون دافعاً للتعلم والتطوير. ومن يُسقط غيره تحت مجهره لا يبتغي الحقيقة، بل يبحث عن ثغرات تسهم في إضعاف الناجحين والنيل من مكانتهم. وبذلك لا يخسر الأفراد المتميزون فحسب، بل يخسر المجتمع فرصة الاستفادة من طاقاتهم وإسهاماتهم.
- إن مواجهة هذه الحروب الصامتة لا تكون إلا بالتجاهل والمضي قُدماً بثقة وثبات، مع الإيمان بأن النجاح مسؤولية يجب حمايتها لا جريمة تستوجب الملاحقة. والمجتمعات التي تبتعد عن ثقافة التدقيق في شؤون الآخرين، وتتبنى ثقافة التحفيز والإشادة، هي التي تضمن بناء أجيال قادرة على الإبداع والتطوير. أما المجهر البشري، فلن يكون إلا انعكاساً لفشل أصحابه، أمام عزيمة حقيقية تصنع المستقبل وتبني مجتمعاً أكثر توازناً ونجاحاً.