في عالم تتسارع فيه التحديات، وتتعاظم فيه ظاهرة الاتجار بالأشخاص كأحد أخطر أشكال الجريمة المنظمة العابرة للحدود، تواصل مملكة البحرين كتابة فصل استثنائي في سجلها الحقوقي والإنساني، لتؤكد للعام الثامن على التوالي جدارتها بالانتماء إلى الفئة الأولى في تقرير وزارة الخارجية الأمريكية، إن الحفاظ على هذا الموقع المتقدم ليس أمراً عابراً، ولا هو ثمرة جهود عابرة، بل هو تجسيد لرؤية وطنية عميقة تدرك أن الأصعب من بلوغ النجاح هو أن تحافظ عليه، وأن تجعل منه قاعدة ثابتة تُبنى عليها مسارات جديدة من التقدم والازدهار.
هذا الإنجاز المتكرر، الذي لا تحققه سوى قلة من الدول لا تتجاوز نسبتها 15% من بين 188 دولة خضعت للتقييم، يكشف أن البحرين اختارت أن تكون في طليعة العالم، لا في صفوف المنتظرين، فمنذ العام 2018 وهي الدولة العربية الوحيدة التي تحافظ على هذا التصنيف دون انقطاع، لتبرهن أن حجم الدولة لا يُقاس بمساحتها ولا بعدد سكانها، وإنما بصلابة مؤسساتها وبصيرتها في إدارة الملفات المعقدة.
إن البحرين لم تخض معركتها ضد الاتجار بالأشخاص بالخطابات والشعارات، بل بأسلوب متين يستند إلى تشريعات رائدة، في مقدمتها قانون مكافحة الاتجار بالأشخاص لعام 2008، وبمنظومات ابتكرت الحلول قبل أن تستفحل المشكلات؛ من مركز حماية العمالة الوافدة إلى نظام الإحالة الوطني، ومن إدارة الرصد الوقائي إلى نظام حماية الأجور الذي غطى مئات الآلاف من العمالة الوافدة، وأسهم في خفض النزاعات العمالية بما يفوق الأربعين في المئة خلال السنوات الأخيرة، التدابير لم تكتفِ بإيقاف الضرر عند حدوده، بل سعت إلى خلق بيئة عمل إنسانية تحفظ الكرامة وتصون الحقوق.
ولأن البحرين تدرك أن الاستدامة لا تتحقق إلا ببناء العقول والضمائر، فقد جعلت التوعية شريكاً أصيلاً في استراتيجيتها، فوسعت من برامجها التثقيفية بالتعاون مع المنظمات الأممية والسفارات، وأنشأت مركزاً إقليمياً للتدريب في مجال مكافحة الاتجار بالأشخاص، لتتحول من دولة ملتزمة إلى مدرسة إقليمية ومركز إشعاع معرفي.
إن ما تحقق اليوم هو حصاد وعي سياسي وفكري وأخلاقي يضع الإنسان في قلب التنمية، ويمنح البحرين مكانة متقدمة في مؤشرات الشفافية وسيادة القانون، ويعزز ثقة المستثمرين والشركاء الدوليين، ولعل القيمة الأعمق لهذا الإنجاز تكمن في أنه رسالة للعالم بأن البحرين لا تكتفي بالنجاح المؤقت، بل تصوغ لنفسها مساراً طويل المدى، مساراً يقوم على الحكمة والإصرار، ويجعل من الحفاظ على الإنجاز مقدمة لابتكار المزيد من الإنجازات، إنها البحرين، التي تعلمنا أن المجد لا يُصنع بالوصول إلى القمة فحسب، بل بالقدرة على البقاء فيها، وإعادة تعريفها جيلاً بعد جيل.
* إعلامية وباحثة أكاديمية