انقبض قلبي عندما قرأت خبر اعتراض سفن أسطول الحرية في عرض البحر، وازداد الانقباض مع كل مقطع ينتشر عبر المنصات الاجتماعية لناشط يُعلن بصوت هادئ: «إذا كنتم تشاهدون هذا الفيديو الآن فذلك يعني أن قوات الاحتلال قد اعتقلتني». هذه اللحظة لا يمكن المرور عليها كخبر عابر، فهي تختصر معركة كاملة بين إنسان يرفع صوته من أجل العدالة، ودولة تمتلك سلاحاً لا تعرف كيف تخفي به خوفها من الحقيقة.

تأثير هذا الأسطول المبارك على العالم أكبر من أي شحنة مادية، فهو فعل رمزي يذكّر العالم بأن الضمير الإنساني لم يمت، فعلى متن هذه السفن اجتمع أطباء وصحفيون ونشطاء من أكثر من عشرين دولة، ليحوّلوا البحر إلى منصة احتجاج مفتوحة على العالم، الصورة وحدها صارت خطاباً سياسياً، فهذا طبيب يرفع حقيبته في وجه أسطول عسكري، وناشطة توثّق بكاميرتها لحظة الاعتراض، ومشهد يُبث مباشرة ليصل إلى ملايين الناس، ليتفاعل العالم كله مع هؤلاء ويطالب بالدفاع عنهم.

ومع ذلك تعالت أصوات في فضاء التعليقات في عوالمنا العربية «لماذا يذهبون؟»، «دول لم تستطع أن تغيّر شيئاً، فكيف يغيّر هؤلاء؟»، «يستحقون ما جرى لهم لأنهم خاطروا بأرواحهم بلا جدوى»، «ماذا استفادوا من ذهابهم غير أن يحرجوا دولهم؟»... هذه العبارات تكشف جانباً مظلماً من وعينا الجمعي، جانباً يفضل الجلوس في مقعد المتفرج على خوض تجربة التضامن، ومن الناحية النفسية يمكن فهمها ضمن ما يسميه عالم النفس الاجتماعي جوناثان هايدت بـ»العقل التبريري»، أي أن الإنسان لا يستخدم منطقه ليكتشف الحقيقة بقدر ما يستخدمه ليبرر مواقفه المسبقة.

في حالتنا، من لم يفعل شيئاً من أجل غزة يحتاج إلى تبرير داخلي يُعفيه من الشعور بالذنب، فيبحث عن أي ذريعة لرفض مبادرة الآخرين، حتى لو كانت سلمية وشجاعة، نجاح الأسطول سيضعه أمام مرآة صمته، وهذا ما لا يحتمله، فيسعى لا شعورياً إلى تقزيم المبادرة أو السخرية منها، كي يظل مرتاحاً أمام نفسه.

وهذا ما يشير إليه بعض فلاسفة الاجتماع حين يتحدثون عن الاغتراب الأخلاقي، أي أن الفرد يهرب من مسؤوليته أمام الظلم عبر تفكيك المعنى الذي يحمله الفعل الأخلاقي، فبدل أن يقول: «أنا قصّرت»، يفضّل أن يقول: «لم يكن هناك جدوى أصلاً». بهذا الشكل يحافظ على اتزانه النفسي، حتى لو كان الثمن تبرير استمرار الظلم.

من زاوية فلسفية أعمق، يمكن قراءة هذه الأصوات بوصفها انعكاساً لما وصفه إريك فروم في تحليله لشخصية «اللامبالاة الحديثة»، حيث يسعى الإنسان أحياناً إلى قتل المعنى في أفعال الآخرين كي لا يشعر بالفراغ في داخله، فهؤلاء يريدون إقناع أنفسهم أن التضامن لا قيمة له، لأن الاعتراف بقيمته سيكشف قسوة موقفهم المتفرج.

والرد على هذه الأسئلة لا يحتاج إلى تنظير طويل؛ فيكفي أن نعيد التذكير أن القضايا الكبرى لم تتحرك يوماً بإجماع الحكومات والمجتمع الدولي، ولكنها تحركت بجرأة أقلية قررت أن تصرخ في وجه الظلم، والشواهد في التاريخ كثيرة.

إن هؤلاء الذين عبروا البحر لينقذوا غزة يريدون القول للعالم كله إن الصمت جريمة، وإن الإنسانية لا تُقاس بميزان الربح والخسارة المباشر، نعم قد لا يسقط الحصار غداً، لكن الرسالة وصلت، فهناك من يجرؤ على كسر جدار العزلة، وهناك من يفضح هشاشة القوة حين تتعرى أمام الكاميرا.

التأثير الإعلامي جاء سريعاً، فمنصات التواصل الاجتماعي كسرت الحواجز القديمة، فانتشرت المقاطع واللقطات من السفن المعترَضة، وتحول الحصار إلى حدث يراه الناس يومياً على شاشاتهم، والذي ما كان يروى عبر تقارير صحفية صار يُشاهد ويُعاد ويُدقق في كل بيت، والنتيجة موجة من التعاطف الشعبي الغربي وضغوط سياسية متزايدة.

ردّ الفعل الإسرائيلي على هذا التحرك السلمي كشف هشاشة أكثر مما كشف قوة، من اعتراض السفن في عرض البحر إلى اعتقال نحو 470 ناشطاً من أكثر من أربعين قارباً، بدت الصورة وقائية ومرتبكة، الخوف يظهر حين تُسلط القوة على مدنيين متضامنين، والخوف يتجلى حين تفقد الدولة قدرتها على التحكم في السردية، فإسرائيل، التي قدّمت نفسها عقوداً باعتبارها واحة سلام، وجدت روايتها تتفتت أمام كاميرات النشطاء وهواتف المتابعين.

المعركة اليوم ليست بين بحار وأخرى، إنما هي حرب بين سرديتين: الأولى تدّعي السعي إلى السلام، والثانية تكشف واقع الانتهاكات بحق الفلسطينين طوال أعوام من الاحتلال والحصار، وأسطول الحرية جزء من تفاعل كبير من السابع من أكتوبر قدّم الدليل أن الرواية القديمة فقدت فاعليتها أمام حقيقة تُوثَّق بالصوت والصورة، وهذا ما يزعج إسرائيل أكثر من أي شيء آخر، وهو أن الضحية الفلسطينية لم تعد صامتة، وأن العالم لم يعد أسيراً لرواية واحدة.