في هذا العالم الذي أنهكته المصالحُ وأرهقته الأنانية، يخرج بين الفينة والأخرى صوتٌ إنسانيٌّ صادق، يذكّرنا بأن الخير لايزال يسكن في القلوب، وأن الضمير الإنساني -مهما خُنق بضجيج الدعاية وتزاحم الأكاذيب- لا يمكن أن يُقتل.

اليوم يقف العالم أمام مشهدٍ يُعيد إلى الذاكرة كل ما قرأناه في كتب التاريخ عن ظلم التتار، وعن الحروب الصليبية، وعن المجازر التي خاضتها البشرية في الحربين العالميتين.. غير أننا هذه المرة لا نقرأ التاريخ، بل نراه حيّاً على أرض فلسطين، حيث تتجسّد كل صور القهر والظلم والإبادة، وحيث تُقصف الطفولة وتُغتال الأحلام أمام أنظار العالم.

ومع ذلك، وسط هذا السواد، أشرقت من بين الركام إنسانية البشر من مشارق الأرض ومغاربها. أصواتٌ من كل لونٍ ولسانٍ وعرقٍ وديانة، خرجت لتقول كلمةً واحدةً تردّدها ضمائر الأحرار، كفى ظلماً.. أوقفوا هذه الإبادة!إنها ليست صرخة العرب وحدهم، ولا المسلمين وحدهم، بل صرخة الإنسانية جمعاء، تلك التي رفضت أن تُخدَّر بذرائع «الدفاع عن النفس» أو تُغشى أبصارها بخداع الإعلام الموجَّه.

لقد حاولت آلة الدعاية الصهيونية أن تُنكر الحقيقة وتُجمّل القبح، لكنها عجزت عن إخفاء المأساة التي فاضت صورها وشهاداتها من كل بيتٍ مهدّم، ومن كل نظرة أمٍّ مفجوعة، ومن كل طفلٍ فقد ملامح الطفولة في لحظةٍ واحدة.

لقد سقطت الأقنعة، وتكشّف وجه الظلم في أوضح صوره، حتى بات العالم كله يرى -بلا وسائط ولا تبريرات- من هو الجلاد، ومن هو الضحية.

ومن أقاصي الأرض إلى أقربها، خرجت شعوبٌ حرة لتقول كلمتها، لا بإملاءات سياسية ولا بحسابات المصالح، بل بدافع الفطرة الإنسانية التي ترفض الظلم.

رفعت اللافتات في الشوارع، وترددت الأصوات في الميادين، وامتلأت القلوب بإحساسٍ واحد: أن ما يجري في فلسطين ليس شأناً محلياً، بل جرح عالمي يدمى له ضمير البشر.

ومن يظن أن هذه الحرب كانت خسارة للفلسطينيين وحدهم، فهو لا يرى الصورة الكاملة. فاليوم تغيّر وعي الشعوب، وتبدّل ميزان الإدراك الإنساني، وأصبح العالم يعرف تماماً من هو المجرم ومن هو الضحية.

بل إن هذه القضية لم تعد قضية أرضٍ وشعبٍ فحسب، ولا قضية العرب والمسلمين، بل أصبحت قضية الإنسان في مواجهة الإجرام، والضمير في مواجهة الزيف.

وها هي دولة الاحتلال التي طالما تبجّحت بعلاقاتها، تقف اليوم في عزلةٍ دوليةٍ تامة، تماماً كما وقف زعيمها قبل أيامٍ وحيداً في قاعة الأمم المتحدة، لا يسمع لصوته سوى صدى الغطرسة، بينما تبتعد عنه نظرات العالم وتزدريه الشعوب.

فشكراً لكل أحرار العالم الذين أثبتوا أن الإنسانية لا تموت، وأن الضمير مهما أُرهق لا يفقد قدرته على النهوض.

فما يحدث اليوم في فلسطين ليس مشهد حربٍ فقط، بل اختبارٌ للضمير العالمي.. اختبارٌ نجح فيه الأحرار، وسقط فيه المجرمون ومن تواطأ معهم بالصمت أو التبرير.