من أبرز مظاهر الذكاء الإداري لدى القادة، قدرتهم على إدراك اللحظة المناسبة لمنح الثقة، وتحديد الأشخاص المستحقين لها. الثقة ليست عملاً عاطفياً أو مجاملة عابرة، بل قرار استراتيجي بالغ الأثر، قد يُسهم في نجاح المؤسسة أو يسرّع من تعثرها. وتقديم الثقة يشبه التوقيع على تفويض مسؤولية، بالتالي لابد أن يستند إلى معايير دقيقة، لا إلى مشاعر آنية.
يُعدّ القرآن الكريم مرجعاً غنياً في هذا الباب، حيث تتجلى الحكمة القيادية في قصة موسى عليه السلام مع ابنتَي نبي الله شعيب، حين قالت إحداهما: «يا أبتِ استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين».
وفي هذه العبارة الموجزة، تتجلى معادلة القيادة الناجحة عبر القوة، أي الكفاءة والتمكن، والأمانة، أي الصدق والإخلاص. وعليه جمع بين هذين العنصرين كان جديراً بتحمل المسؤولية ونيل الثقة.
القائد الإداري الناجح هو من يُحسن تقييم من حوله، ويملك القدرة على قراءة الشخصيات، واكتشاف من تتوافر فيهم صفات الكفاءة والنزاهة. إذ إن تفويض المهام للأشخاص المناسبين لا يقتصر أثره على إنجاز الأعمال بكفاءة، بل ينعكس أيضاً على بيئة العمل، حيث يسود الالتزام، ويُحفَّز الأداء، وتُبنى فرق عمل متماسكة يقودها الاحترام المتبادل والانضباط.
اليوم، تتجلى الحاجة الماسّة إلى الذكاء الإداري في بيئات العمل الحديثة، حيث تتسارع المتغيرات التقنية والتنظيمية. فالقائد الذي يفتقر إلى مرونة التفكير وسرعة التكيّف قد يجد نفسه عاجزاً عن التعامل مع ضغوط الأداء أو اختلاف أنماط العاملين. الذكاء الإداري هنا لا يقتصر على التحليل واتخاذ القرار، بل يشمل امتلاك البصيرة في التعامل مع الأزمات، والقدرة على بناء جسور الثقة مع فرق العمل متعددة الخلفيات، وتوظيف نقاط القوة لدى الأفراد في الأماكن التي تعظم من فاعليتهم. وفي هذا السياق، تصبح الثقة أداة استراتيجية تُستخدم لتحفيز المبادرة، لا مجرد مكافأة تُمنح بعد الإنجاز.
لكن الذكاء الإداري لا يتوقف عند منح الثقة فحسب، بل يشمل المتابعة الواعية والتقويم المستمر. فالقائد الذي يُفوض دون رقابة يفتح باب التسيّب، والذي يراقب دون ثقة يخلق بيئة خانقة تفتقر إلى المبادرة. ولهذا، فإن تحقيق التوازن بين الإشراف والتمكين يُعدّ من أعلى مراتب الحكمة الإدارية.
يجب أن نُدرك أن إساءة توجيه الثقة من أكثر ما يهدّد كفاءة المنظومات الإدارية. فعندما تُسند المهام إلى من يفتقرون إلى الخبرة أو النزاهة، فإن الأضرار تمتد لتشمل الأداء، والروح المعنوية، ومكانة المؤسسة. حيث تغيب الرؤية، وتكثر الأخطاء، ويُقصى أصحاب الكفاءات الحقيقية، ما يؤدي في النهاية إلى تراجع الأداء وفقدان البوصلة.
جوهر القيادة ليس في حجم السلطة الممنوحة للقائد، بل في دقته في اختيار من يعتمد عليهم. كما أن الطبيب لا يصف علاجاً قبل التشخيص، فإن القائد الحصيف لا يفوّض مهمة دون أن يتأكد من أهلية من سيُسندها إليه.
نحن بحاجة في كل مؤسسة، أكانت صغيرة أم كبيرة، إلى إحياء المعايير القويمة التي أرستها النصوص القرآنية، وفي مقدمتها قول الله تعالى: «إن خير من استأجرت القوي الأمين». فبهذه القاعدة تُبنى ثقة قائمة على استحقاق، وتُوزّع المسؤوليات بإنصاف، ويُصنع النجاح على أُسس من البصيرة والرشد الإداري.