بدر علي قمبر

في كل مرة يمر عليك عام من عمرك، تكبر سنة، وتكبر أحلامك، وتنضج خبراتك، وتتسع ثقافاتك. تستذكر شريطاً طويلاً من الذكريات، وفي كل مرحلة تبقى في الذاكرة بعض الذكريات اللطيفة أو المزعجة، وبعض المواقف الجميلة التي تركت فيها بصمتك وأثرك.

كنت في ظلمة بطن والدتك، وحينها بدأت حكايتك في هذه الحياة منذ النطفة الأولى، بعد ثنتين وأربعين ليلة، حيث تُكتب في صحيفتك السطور الأولى من حياتك، أجلك ورزقك. ثبت في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً، فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص».

ثم فتحت عينك على الحياة دون أن تفقه شيئاً، وأنت تبكي! هل تعلم لماذا؟ ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان.» وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم:

«ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه». فهو صراع أبدي دائم مع الشيطان بدأ من تلك اللحظات، ويستمر حتى لحظات الرحيل. ورد في قوله تعالى: «قال أنظرني إلى يوم يُبعثون، قال فإنك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم».

هي رحلة جميلة وعصيبة في آن واحد؛ جميلة إن أحسنا فيها تقوية إيماننا، وقربنا من المولى الكريم وطاعتنا له وللنبي صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للإغواءات الشيطانية أن تمسنا بسوء أو تضلنا عن طريق الاستقامة والثبات على دين الإسلام. وعصيبة إذا استسلمنا للشيطان وتركنا جادة الصواب، وأصبحت حياتنا مجرد لهو وعبث وتقصير في الصلاة والعبادات.

لذا، ففي كل سنة جديدة تمر من عمرك تتنفس فيها أنفاس الحياة، فتطل عليها ولا تعرف خفاياها، ولا تعلم ماذا ينتظرك في الغيب. فأنت حينها في تحدٍ جديد، وفي فصل آخر من حياتك، تعيشه في أجواء الحياة المتسارعة، بمواقفها وأحداثها الحزينة والسارة، وبلطائف العيش مع الطيبين، وبجبر الخواطر مع الأحباب والمخلصين.

التحدي الجديد هو أن تراجع تلك السنوات التي مرت في حياتك، وماذا قدمت فيها، وما الأثر الذي تركته، وكيف كانت عبادتك مع الله عز وجل، وهل استطعت أن تكون خير خليفة لله تعالى في أرضه؟ تسير وأنت تعلم بأنك ممتحن في هذه الحياة، وأنها محطة تمحيص لك، قبل أن تفارقها، وتأتي لحظات الحساب المحتومة، وتتذكر بأنك ستقف يوماً بلا ترجمان بين يدي الله عز وجل. ورد في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:

«ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمنه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأمه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة».

يا الله، تخيل هذا المنظر العجيب المخيف: يُكلمك المولى الكريم الرحيم بلا ترجمان، وحدك بعيداً عن أهلك وأصحابك الذين كنت تبحث عنهم في الدنيا. فتنظر يمنة ويسرة لترى كل أعمالك، ركّز معي على أعمالك التي قدمتها اليوم وأنت تتنفس الحياة. ويا ترى ما هي هذه الأعمال التي ستراها؟ والصورة المؤلمة أن ترى بين يديك، وتلقاء وجهك، النار! اللهم أعذنا منها يا رب.. ثم يكون الحل بسيطاً، بأن تتقيها بصدقة شق تمرة، أو بكلمة طيبة.

ليس من السهل أن تتأمل عطاءاتك في الحياة، وليس من السهل أن تقرر أن تكون أفضل مما كنت عليه بالأمس، وليس من السهل أن تجعل عامك الجديد، أو ما تبقى من سنوات عمرك في هذه الدنيا، مليئة بالأثر والخير والعطاء الجميل. لأنك باختصار مازلت بحاجة إلى المعينات الإيمانية التي تساعدك على مواجهة نوائب الدهر، وتكوّن مصدات قوية لتهزم قوى الشر الشيطانية، وأن تكون صاحب عزيمة وإصرار وصادق مع ربك.

عليك أن تُحسن المقصود، وتركز في خطوات السير، وألا تمر عليك الأيام بغفلة دون أن تعطي فيها الأثر الإيجابي المكسو بالإحسان، وأن لا تتهاون في الشبهات، حتى لا تقع في المحظور وتبيح ما حرّم الله تعالى. كما قال صلى الله عليه وسلم:

«فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام».

تذكر بعمرك الجديد، نعم الجديد غير المرتبط بعدد السنوات، أن الحياة جميلة إذا كانت كلها لله تعالى وحده. وهناك من يستذكرون أثرك وعطاءاتك، وهناك من يحبك ويقدر ما قمت به في محطات الخير. الحياة جميلة بصلاتك، وتسبيحك، وقراءتك للقرآن، وبصدقتك، وصلتك لأرحامك، وأعمال الخير التي تقوم بها.. جميلة بقلبك الطيب المحب الصافي، وبأخلاقك الرزينة. فكن على الموعد دائماً بأن تكون فراشة تجوب الأرض لتنشر الخير، ولا تكن مجرد هامش من هوامش الحياة بلا حراك لأجور الآخرة!

ومضة أملاللهم اجعلنا ممن طال عمره وحسُن عمله، وألبسنا لباس الصحة والعافية، وأحسن خاتمتنا في هذه الدنيا، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.