ها هي غزة، من تحت رماد الحرب، تنبض من جديد بنبض الحياة، وتتنفس للمرة الأولى منذ عامين رائحة الهدوء، وكأنها تستعيد وجهها الإنساني الذي غاب خلف دخان القصف وصوت الركام، اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته قوى إقليمية ودولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة بوساطة مصر وقطر وتركيا، لم يكن مجرد هدنة عابرة، بل خطوة أولى في مسار سلام طويل وشائك يسعى إلى طي صفحة دامية في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، إنه اتفاق جاء بعد نزيف طويل، وبعد أن استيقظ الضمير الإنساني أخيراً على مشهد أطفال غزة ونسائها تحت الأنقاض، وعلى إدراك بأن الحرب لم تعد تجلب سوى العار والدمار للطرفين.
لقد تلاقى في هذا الاتفاق ما هو سياسي وإنساني ودبلوماسي في آنٍ واحد، ليجسد لحظة نادرة من التوافق الدولي حول ضرورة إنهاء الحرب وإحياء الأمل، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قالها بوضوح: «يجب إنهاء القتال مرة واحدة وإلى الأبد، وضمان دخول فوري ودون عوائق للإمدادات الإنسانية إلى غزة»، كلمات تعبر عن ضمير العالم، وعن قناعة راسخة بأن السلام هو الخيار الوحيد القادر على حماية الكرامة الإنسانية، فيما وصف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الاتفاق بأنه: «لحظة ارتياح عميق يشعر بها العالم بأسره، ويجب أن تكون مصحوبة برفع جميع القيود على المساعدات الإنسانية لغزة» أما الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، فاعتبر الاتفاق «إنجازاً تاريخياً يستحق أن يُذكر في سجل نوبل للسلام»، وأعلن ترشيح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للجائزة، تقديراً لدوره في التوصل إلى هذا الاتفاق الذي غيّر مسار الحرب.
وبينما عبّرت إيطاليا وكندا عن إشادتهما بالدور الأمريكي وبالوساطة العربية، جاءت المواقف الخليجية لتؤكد أن المنطقة بأسرها تتوق إلى سلام عادل وشامل، فقد عبّر حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم، عن هذه الرؤية العميقة حين قال إن: «هذا يوم للسلام في الشرق الأوسط والعالم»، عبارة تختصر فلسفة البحرين الدبلوماسية القائمة على الحوار والتعايش، وتؤكد أن السلام لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى على الشراكة والثقة والاحترام المتبادل، إنها دعوة لأن يتحول الشرق الأوسط من ساحة نزاع إلى فضاء إنساني يحتضن شعوبًا تتطلع للعيش بأمن وكرامة.
ومع ذلك، فإن هذا السلام الناشئ لايزال هشاً، إذ يواجه تحديات إعادة الإعمار ومعالجة الجراح المفتوحة، فغزة ليست مجرد حجارة تحتاج إلى ترميم، بل إنسان يحتاج إلى أمل، وطفل إلى مدرسة، وأم إلى مأوى، ومدينة إلى كهرباء وماء وعدالة، ولهذا لا يمكن للمجتمع الدولي أن يكتفي بالتصريحات، بل عليه أن يتحرك بخطة شاملة لإعادة الإعمار، تضمن تدفق المساعدات واستعادة البنية التحتية وخلق فرص عمل تعيد الكرامة للناس.
أما على صعيد العدالة، فإن العالم لا يمكن أن يطوي الصفحة دون محاسبة من تسبّب في هذه المأساة، فسلام بلا عدالة هو هدنة مؤقتة، وعدالة بلا محاسبة تبقى ناقصة، يجب أن يُفتح ملف الجرائم بحق المدنيين، وأن تُعاد هيبة القانون الدولي الذي فقد كثيرًا من وزنه أمام تكرار الانتهاكات دون عقاب.
إن ما حدث اليوم ليس مجرد نهاية حرب، بل بداية وعي جديد، فالشعوب العربية، ومعها شعوب العالم، تنظر إلى هذا الاتفاق كفرصة لإعادة تعريف السلام، لا كاستراحة بين حربين، بل كمنعطف نحو مستقبلٍ تُبنى فيه الأوطان على العدالة والاحترام المتبادل، إن استقرار غزة هو استقرار للشرق الأوسط بأسره، ونجاح الوسطاء في تثبيت الهدنة هو نجاح لفكرة أن السياسة حين تتقدّم على السلاح، تمنح الحياة فرصة للبقاء، فلتكن هذه الخطوة بداية لحقبة تُبنى فيها القلوب قبل الجدران، ويُعاد فيها بناء الإنسان قبل الحجر، لأن حق الحياة هو أسمى ما يمكن أن تبلغه الإنسانية في طريقها نحو سلامٍ دائم.
* إعلامية وباحثة أكاديمية