في أكتوبر العام الماضي، ألقى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، خطابًا وطنياً محورياً خلال افتتاح دور الانعقاد الثالث لمجلس الشورى والنواب، حيث سلط الضوء على قضية جوهرية تمس عمق الوجود الوطني، وهي مسألة تأصيل الهوية البحرينية.
أشار جلالته إلى أهمية تنفيذ دراسة متكاملة لقياس مدى جاهزية البحرين لترسيخ مقومات هويتها الوطنية، مما يعكس حرص القيادة على تحويل مفهوم الهوية إلى مشروع مؤسسي يعزز الحضور الوطني في مختلف المجالات.
تأصيل الهوية الوطنية يعني العودة الواعية إلى الجذور التي تشكّلت منها الشخصية البحرينية، واستحضار القيم والتقاليد والموروثات التي صاغت النسيج الثقافي والاجتماعي للمجتمع عبر تاريخه.
لكن هذا التأصيل لا يعني الانغلاق أو الجمود، بل يستدعي فهماً حديثاً ومتجدداً للهوية، يتفاعل مع الحاضر، دون أن يذوب فيه، ويحافظ على الأصالة، دون أن يرفض التطور.
الهوية ليست شكلاً ساكناً، بل وعياً بالانتماء، يعزز استمرارية التاريخ في الحاضر، ويمنح الفرد شعوراً بالمسؤولية تجاه مجتمعه، ويغرس فيه الاعتزاز بما هو عليه من ثقافة وقيم.
وهي في جوهرها تمثل الرابط الخفي الذي يجمع أبناء الوطن، ويجعل من التضحية من أجله عملاً نابعاً من الإيمان العميق، لا مجرد التزام قانوني.
المجتمعات التي لا تمتلك مرجعية ثقافية واضحة يسهل اختراقها فكرياً وتفكيكها اجتماعياً، ما يهدد وحدة كيانها وتماسكها الداخلي. لذا، فإن الحفاظ على الهوية يعد أحد الخطوط الدفاعية الأولى في حماية الأمن المجتمعي.
الرؤية الملكية هنا تؤكد على أن صون الهوية الوطنية لا يقتصر على الجانب الثقافي، بل يشكل ركيزة أساسية من ركائز الأمن الوطني.
فبناء مجتمع يتمتع بوعي قوي بهويته، يعني بناء جبهة داخلية صلبة، قادرة على مقاومة التأثيرات السلبية، والتفاعل الواعي مع المتغيرات دون التفريط في الثوابت.
ومن هنا، فإن تكليف الجهات المختصة بدراسة مدى جاهزية البحرين في هذا المجال، يعكس توجهًا عمليًا نحو إدماج الهوية ضمن منظومة السياسات الوطنية.
فالهوية لم تعد مجرد شعور أو انتماء وجداني، بل يجب أن تُقاس وتُدعم بمشاريع تعليمية وإعلامية وثقافية منظمة، تضمن استدامتها في الأجيال القادمة.
وعند تطبيق هذا المشروع الوطني بشكل فعّال، ستنعكس نتائجه بشكل مباشر على تشكيل وعي الأفراد، وتعزيز ارتباطهم بوطنهم، وزيادة مشاركتهم في مسيرة التنمية.
كما أن المجالات الحيوية كالتعليم والإعلام والفنون، ستشهد انطلاقة متجددة بروح بحرينية أصيلة، توازن بين الانفتاح العالمي والتمسك بالخصوصية الثقافية.
الهوية الوطنية والانتماء يجب أن تظلا ركيزتين أساسيتين في مسيرة أي مجتمع يطمح إلى الاستمرار بقوة وثبات.
فالشعوب التي تحافظ على هويتها تحافظ على وجودها، وتؤسس لمسار تنموي متوازن يربط الماضي بالحاضر والمستقبل.
بإذن الله ستمضي البحرين، كما أرادها جلالته، وطناً راسخاً في أصالته، متجدداً في رؤيته، قوياً بانتماء أبنائه، ومحصناً بهويتهم.