في مثل هذا اليوم من كل عام، أقف أمام مرآة الزمن لا لأعد سنواتي، بل لأتأمل أثرها في نفسي.

أدرك أن العمر ليس أرقاماً تتوالى، بل هو حصاد التجارب التي شكّلت ملامحي الداخلية، والمواقف التي صقلتني، والدروس التي نضجت بي خطوةً بعد أخرى، حتى أصبحت أرى الحياة بعينٍ أكثر وعياً.

علمتني الأيام أن النضج لا يُقاس بالعمر، بل بالقدرة على التوقف بعد كل عثرة، لفهم الدرس المختبئ خلفها.

ليس الألم عبئاً نحمله، بل معلماً إذا أنصتنا له جيداً. إذ كم من سقوطٍ منحني قوةً لم أتخيلها، وكم من خسارة فتحت لي أبواباً لفهمٍ أعمق لذاتي ولمن حولي.

ومع مرور الوقت، أدركت أن التغيير لا يطرق الأبواب فجأة، بل يتسلل بهدوء، حتى نستيقظ يوماً لنعرف أننا لم نعد كما كنا. لم نخطط لهذا التحوّل، لكنه كان ضرورياً لنصبح ما نحن عليه الآن.

كنت، ككثيرين، أعيش في انتظار المؤجَّل، حدثٌ سعيد، إنجاز كبير، أو لحظة مثالية. لكنني تعلّمت أن الحياة لا تنتظر أحداً، وأن اليوم الذي أعيشه هو الحياة بكل تفاصيلها. فإن لم أحتفل به، فلن يحتفل به عني أحد.

وغالباً ما أُفكّر، في هدوء اللحظات، كيف أن أجمل ما في الحياة قد لا يكون في محطاتها الكبرى، بل في تفاصيلها الصغيرة التي نعبرها دون انتباه، صوتٌ مألوف يطمئن القلب، لقاء غير متوقّع يُنعش الذاكرة، أو حتى لحظة صمت نجد فيها أنفسنا كما لم نعرفها من قبل.

لقد تعلّمت أن الامتنان لا يحتاج إلى مناسبات عظيمة، بل إلى قلبٍ يُبصر النِعم في بساطتها، ويُدرك أن جمال الحياة ليس فيما ننتظر حدوثه، بل فيما يحدث بالفعل كل يوم ونحن مشغولون عنه.

الحياة مدرسة لا تتوقف دروسها. بعضها بسيط، كابتسامة عابرة تغيّر يومي، وبعضها عميق يهز يقيني ويجبرني على إعادة ترتيب أولوياتي. لكنني بتّ أؤمن أن لا شيء يمرّ عبثاً، وأن حتى أصغر التفاصيل قد تكون نواة لتحوّلٍ كبير.

ومع توالي الأعوام، تزداد قناعتي بأن الإيجابية ليست ترفاً، بل ضرورة للبقاء. أن أستقبل أيامي بشغف، وأسعى لتحقيق ما يُشبهني، هو ما يمنحني طاقة الاستمرار. أريد أن أترك أثراً، مهما بدا صغيراً، وأُسهم في جعل هذا العالم مكاناً أفضل.

واليوم، وأنا أبدأ عاماً جديداً من حياتي، أهمس لنفس، طالما في صدري نفسٌ يتردد، فما زال الطريق مفتوحاً للتجدد، للتعلّم، وللحب. فالعمر ليس ما مضى، بل ما أعيشه الآن، وما أختار أن أكونه في كل لحظة من هذا الدرب الطويل الذي يُسمى الحياة.