من المشين أن نرى في هذا العصر طائفة من المتحدثين والمنظّرين، سواء أكانوا مسؤولين في مواقع القيادة أو شخصيات مستقلة أو حتى مؤثرين في وسائل الإعلام باختلافها، يسعون لتصدّر المشهد بخطاباتهم البرّاقة عن القيم والمبادئ والنزاهة والإخلاص، بينما تكشف ممارساتهم اليومية عن تناقض صارخ بين القول والعمل.
هؤلاء هم من جسّد فيهم بيت الشعر الخالد: «لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله، عارٌ عليك إذا فعلت عظيم».
الخطر الذي يشكّله هؤلاء لا يقلّ عن خطر المنافقين الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنوّرة، حينما أظهروا الورع والإيمان، وأبطنوا الحقد والنفاق. فالمنافق في كل زمان هو ذلك الذي يتزيّن بثوب الصلاح ليُخفي وراءه قبح الفساد وسوء النية.
هؤلاء المعاصرون، وإن اختلفت أدواتهم، فهم على ذات النهج، يرفعون الشعارات المثالية، يتحدثون عن العدالة والشفافية والقيادة الأخلاقية، ولكنهم في الواقع يمارسون العكس تماماً، وينشرون الفساد الإداري والظلم والأنانية في مؤسساتهم ومجتمعاتهم.
المشكلة الكبرى أن خطابهم المنمّق يفتن الناس، فينخدع كثيرون بظاهر القول وبراعة التقديم، غير مدركين أن ما يُقال لا يعكس ما يُفعل. فبعض هؤلاء يمتلكون ثقافة عالية وبلاغة لسان، لكنهم يفتقرون لأبسط مقومات الصدق والإخلاص.
تراهم يتشدقون بمفاهيم القيادة التحفيزية والحوكمة والنزاهة، بينما في واقعهم الإداري يمارسون الإقصاء، ويغذّون ثقافة التملّق، ويُقصون الكفاءات لحساب المصالح الشخصية.
مثل هذه الازدواجية الأخلاقية لا تدمّر فقط سمعة الفرد، بل تمتد لتدمّر المؤسسات والمجتمعات من الداخل. فهي تُشيع الإحباط بين العاملين، وتفقد الثقة بين القادة والمرؤوسين، وتغرس في الأجيال القادمة مفهوماً مغلوطاً عن النجاح والمكانة والقدوة. كيف نُقنع موظفاً بالإخلاص في العمل، ومديره الأعلى نموذج في التناقض والنفاق؟! وكيف نزرع الإيمان بالقيم إذا كانت الوجوه التي تتحدث بها هي ذاتها التي تنتهكها في الخفاء؟!
الزمن، كفيلٌ بكشف الزيف، فالكلمة الخادعة قد تُخدع بها العيون لوهلة، لكنها لا تصمد أمام حقيقة الفعل. من عاشر هؤلاء واحتكّ بهم عن قرب يُدرك أن البريق الذي يحيطون به أنفسهم ليس إلا مساحيق تجميل فكرية، تُخفي وراءها وجهاً قبيحاً من الزيف والأنانية. وكما يقال: «يمكنك أن تخدع الناس لبعض الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدعهم كل الوقت».
ابتُلينا في زماننا هذا بانتشار هذه النماذج، التي ترتدي عباءة المثالية بينما أفعالها شيطانية، تتحدث عن الإخلاص وهي تمارس الخيانة، وتنادي بالنزاهة وهي غارقة في المحسوبية والرياء. ومع ذلك، يبقى وعد الله حقاً: «ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين». فالله يكشفهم عاجلاً أو آجلاً، ويفضح تناقضهم للناس، ليكونوا عبرة لغيرهم.
وفي الختام، نصيحتي لكل من يسمع أو يرى هؤلاء، لا تنخدع بالمظاهر، ولا تغرّك الكلمات الرنانة. فليس كل متحدثٍ قدوة، ولا كل من نادى بالقيم مؤمناً بها. احكم على الناس بأفعالهم لا بأقوالهم، وعلى المسؤولين بسلوكهم لا بخطبهم. فالصدق لا يُصطنع، والإخلاص لا يُتقمّص، والمنافق مهما تجمّل، فإنّ ما خفي منه أعظم وأدهى.
عافانا الله وإياكم من هذا الداء السقيم، ووقانا شرّ الزيف وأهله.