في زمنٍ لم تعد فيه المعايير القديمة تقنع متطلّباً ولا تلبّي حاجات مواطنٍ يلهث خلف خدمة ميسّرة ومعاملة إنسانية، جاءت مبادرة «الموظف الحكومي المتميّز في خدمة العملاء» لتكسر رتابة البيروقراطية، وتُعلن -لا بالصوت بل بالفعل- أن المؤسسة الحكومية البحرينية قادرة على أن تكون ندّاً للكفاءة، وخصماً للإهمال، وشريكاً في جودة الحياة.

إن تدشين هذه المبادرة ليس فعلاً إدارياً عابراً ولا مجرد تحسّن شكلي في واجهة الخدمة، بل هو إعلانٌ صارم عن حقبة جديدة تتبنّى التميّز منهجاً، والشفافية معياراً، والتقييم أداة رقابية داخلية تحرّك عجلة الأداء وتطرد الخلل، ولعلّ اختيار الأسلوب المباشر في قياس رضا العميل عبر استبيان فوري يُرسل بعد تقديم الخدمة، قد غيّر معادلة السلطة بين الطرفين: لم يعد الموظف هو صاحب الكلمة الأخيرة، بل أصبح المواطن هو الحكم الأخير.

نتائج البرنامج، وإن كانت في بداياتها، إلا أنها تحمل بذور التغيير بمشاركة 20 جهة حكومية حتى الآن، تمّ خلق بيئة تنافسية داخل المؤسسات، لا تُكافئ على عدد المعاملات المنجزة فقط، بل على طريقة إنجازها ومدى رضا المتلقي عنها، وهي ثقافة لم نعتدها في منطقتنا إلا مؤخراً، حيث كانت الخدمة العامة تقيس نفسها بعدد الأختام والمكاتبات، لا بنبض رضا المواطن، لكن حين يتمّ إرسال استبيان أوتوماتيكي عبر «واتساب» يحتوي أسئلة دقيقة حول الكفاءة، والسرعة، والاحترافية، ومستوى الخدمة، فإننا بصدد نظام مراجعة علني لا يُجامل أحداً، يُشعر الموظف بأنه مراقب بعيون من يخدمهم، لا من يقيّمونه إدارياً فقط.

ولكن لا يمكن الحديث عن هذه المبادرة دون الإشارة إلى كيفية التغلب على أي تحديات قد تواجهها.

إن المبادرة تُحسب ضمن الرؤية الإصلاحية الشاملة التي تسعى إليها مملكة البحرين في مشروعها لتحديث القطاع الحكومي، إنها رؤية تفهم أن المواطن ليس مجرد متلقٍّ، بل شريك في عملية التقييم والتطوير، وأن الجودة لا تنبت من أرض الإملاءات، بل من استماع حقيقي لصوت الناس، لقد تحرّك النهج البحريني هنا من إدارة الخدمة إلى إدارة التجربة، وهو انتقال مفاهيمي يضعنا على مسار الدول المتقدمة في الأداء المؤسسي.

من الناحية الفكرية، هذا البرنامج لا يقتصر على تطوير الأداء، بل يؤسس لفلسفة حَوكَمية قائمة على المحاسبة اللحظية والشفافية المستمرة، وهو ما يعكس التوجّه نحو بناء نموذج مؤسسي وطني يستند إلى ثلاثية الجودة، والاستدامة، والمساءلة.

ولأن الرقم خير شاهد، فإن أثر هذه المبادرة سيقاس في المستقبل القريب ليس فقط بعدد الجهات المنضمّة، بل بنسبة التحسّن في رضا المواطنين مقارنة بالسنوات الماضية، وبمدى انخفاض الشكاوى المتكررة، وبمستوى التحفيز داخل البيئة الحكومية، إذ لا يكفي أن نُجري استطلاعاً، بل يجب أن يكون لذلك الاستطلاع أثر فعلي على السياسات والإجراءات، وإلا غرقنا في شكلانية الأداء دون جوهره.

في النهاية، تبقى هذه المبادرة خطوة ذكية نحو بناء ثقافة حكومية جديدة، لا تتغنّى بالإنجاز، بل تجعله نمطاً يومياً.

* إعلامية وباحثة أكاديمية