قبل يومين جمعني لقاء بعدد من الأصدقاء الأعزاء، بينهم حديث عهد بالزواج لم يمضِ على زواجه أكثر من أسبوعين، عاش حياة العزوبية زمناً ليس بالقصير، وفجأة ودون سابق إنذار قرّر عبور الجسر الناقل من ضفة الفوضى إلى ضفة الاستقرار، فاكتشف أنه عبر إلى ضفة أخرى من الحياة! أسبوعان كانا كفيلين بالنسبة له ليعيد تعريف المصطلحات، فعلى سبيل المثال صار يعتبر الاستقرار الاسم الأدبي للأسر! في ذلك اللقاء الحافل، تسيّد الجلسة، ففي أربعين دقيقة ألقى عدداً من الحِكم الفلسفية، لم يقدّمها فيلسوف معاصر في كتاب، وعرض مقدّمات لنظريات اجتماعية لم يقدّمها ابن خلدون، أسبوعان من الحياة الزوجية لم يغيّرا نظام حياته فحسب، بل جعلاه يُعيد تعريف الحياة نفسها، وكل ذلك في أسلوب الكوميديا السوداء، أما نحن فخلال الأربعين دقيقة لم نتوقف عن الضحك.

بدأ حديثه بوجه ممتقع، وصوت يخفي وجعاً، وقال: قبل أسبوعين فقط، كنت مثل العصفور، أعرف مكاني عندما أنتقل من مكان لآخر، أما الآن فعندما يتصل أحدهم -ومنهم زوجتي- ويسألني أين أنت؟ أقول لا أعرف، لأني لا أعرف أنا أين! ضحكنا، وكنت أول الضاحكين، فقال لي بحزم: بالله عليك كيف يمكنك الضحك وأنت متزوج؟! ليبدأ بهذه العبارة عرضاً هزلياً قدّمه بصيغة قراءة بيان إعلان استسلام وانهيار نفسي، فقال: خلال أسبوعين فقط، زوجتي غير راضية عني، مديري في العمل غير راضٍ عني، زملائي في العمل غير راضين عني، يا ناس أنا أيضاً غير راضٍ عني! ثم نظر إلى السماء نظرة المتأمل وأطلق حكمته: «النسوان» نكد في نكد، وأنا في ورطة، ليبدأ بعدها بوصف حياته الزوجية «البوليسية» فيقول أنا تحت نظام مراقبة مشدّد، لا تتبعه أجهزة الاستخبارات، فالزوجة تعمل على التأكد بين لحظة وأخرى، أين أنا ومع من ولماذا؟ بعد ذلك لا ينتهي الأمر لأني سأدخل إلى جلسة تحقيق عندما أعود، بعدها فكر لحظات وقال: النساء ظريفات، لكن قبل الزواج، أما بعده فيتغيّرن، لأنهم يعتبرن الزوج ملكاً لهنّ، فكل الحركات محسوبة وكل الكلمات مراقَبة، فها أنا أحاسَب على أعمال اقترفتها قبل عشر سنوات! أموالي ليست لي، وقتي ليس لي، أصدقائي ليسوا لي، حتى نفسي ليست لي، قبل الزواج كانت لدي مهارات ألعب فيها في موقع الهجوم، أما بعده فلم أتخطَّ موقع الدفاع، أنا الآن مسجون، أعيش تحت الإقامة الجبرية، ثم ابتلع جرعة من الشاي، كأنه يبتلع ما تبقى له من كرامته، وما أن انتهى حتى قال حكمته الأخرى: «الزواج بداية نهاية الإنسان»، بعدها قال: يكلمني أبي هاتفياً وهو سعيد بزواجي، ويقول لي إخوتك سعداء، أخواتك سعيدات، عماتك وخالتك كلهم فرحوا لك وسعداء، إلا أنا لست سعيداً، بعد ذلك قال: فكرت قليلاً وحاولت أن أكون عادلاً ومنصفاً، وقلت في نفسي لم لا أُعيد حساباتي، فقد أكون على خطأ وأنا المذنب، فأعدت حساباتي واكتشفت أني على صواب! بعدها تابع سلسلة اكتشافاته القاسية، فقال جملة كأنها طلقة نارية: لا أدري كيف يسمّي الناس الذكرى السنوية للزواج بعيد الزواج، المفروض يسمونه يوم الاستعمار، فهذا يوم اعتقالي! بعدها فضَّ المجلس وخرج من الجلسة وبقيت كلماته تدوي في المكان عندما عرّف الزواج بقوله: هو أن تبيع سعادتك بيدك.

قد تكون كلماته مبالغاً فيها، لكنها قد تكون أيضاً طبيعية لشخص عاش الوحدة طويلاً وألفها، فالزواج بالنسبة له لا يبدو وكأنه مشروع بناء أسرة بقدر كونه مشروعاً لهدم الذات، وما قاله صاحبنا ربما يكون مزحاً، وربما يكون صراخاً من الداخل، فقد بدا لنا وكأنه يقرأ بيان انهيار جمهورية حريته.

* عميد كلية القانون

- الجامعة الخليجية