كثير ممن حولنا، سُئلوا عندما كانوا أطفالاً، ماذا تحب أن تكون عندما تكبر؟ فأجابوا بـ: طيّار، لكن مع المستقبل وعوامل التعرية، منهم من أصبح سائق تاكسي، أو سمسار سيارات، أو غير ذلك، والمشكلة ليست في المهن إنما في قراراته التي اتخذها في حياته، فهي قرارات لا تُبنى على دراسة أو تخطيط، إنما تُبنى على «أحس» و«أشعر» و«أتوقع» و«يمكن» فهي قرارات تأتي حسب المزاج، أو ما شاهده من إعلانات على مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا الكائن اللطيف يدخل في علاقة عاطفية بغرض الزواج، بناء على نصيحة صديقه المطلّق حديثاً، وهي نصيحة قائمة على أساس «لا تهتم، هي تجربة» فيعجب ويحب ويتعلق بيومين، وفي غضون شهر يتزوج، وبعد أسبوعين من الزواج يبدي شعوره بعدم الارتياح، لا لخلل في الطرف الآخر، لكنه اكتشف أنه أصبح مسؤولاً، وبالتأكيد لم يتمكن من تقدير المسؤولية في فترة ما قبل الزواج -وإن كانت قصيرة- لأن الرسائل بين الطرفين كانت عبارة عن «كيف نمت أمس» و«أكلت زين» فتحولت إلى «نحتاج إلى فواكه وخضروات» و«تذكير بموعد زيارة الطبيب»، لا تمضي فترة طويلة وينفصل، فيقول كل شيء نصيب، والحقيقة أنه تعامل مع الموضوع بـ«نص» عقل، يترك عمله ويتوجه ليفتح مشروعه بناء على مقطع لمشهور في تيك توك يقول فيه: «غامر لتصبح مليونيراً» فيغامر ويفتح مقهى في موقع لا يرتاد سكانه المقاهي، فيفشل ويغلق مشروعه ويكتب منشوراً يقول فيه: الحياة دروس وتجارب! لكن تجربته كانت قائمة على «نص» عقل، تعجبه فكرة الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي ويقرر أن يدخل هذا العالم من باب المثقفين، فينشر اقتباسات لفلاسفة وأدباء تظهر تناقضاً واضحاً، وإذا سُئل عنها، وعن معناها، قال: هذه مقولات تتحدث عن النفس البشرية، ولا يعرف ماذا تعني، لأنه تعامل مع هذه النصوص بـ«نص» عقل، يقرأ من الأخبار العناوين ولا يعرف شيئاً عن التفاصيل، ليذهب بعدها ويتحدث في المجالس عن أحداث تتعلق بتفاصيل العناوين ويدافع عن أخبار لا يعرف حقيقتها، ينشر صوراً له ويختار «فلتر» لكل صورة، ويعالجها بالذكاء الاصطناعي ليقدم منتجاً يُحيّر المشاهد، ويكتب معها منشوراً يقول: الحياة بسيطة ونحن من يعقّدها، والمشكلة في «نص» العقل.

«نص العقل» أصبح ظاهرة في المجتمعات، كَثُرت بسببه القرارات شبه المنطقية ذات النتائج الكارثية، وفي الحقيقة الأمر بسيط، فمن له «نص» عقل ليس عليه تقديم النصائح لغيره، وليس عليه أن يتحوّل إلى إعلامي بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي، والأهم ألا يتخذ قرارات تمسّ غيره.