لم يعد الانخراط في العمل الشرطي كما كان يُتخيّل في الماضي؛ تلك الصورة التقليدية التي كانت ترسخ لدى البعض فكرة أن الانضمام إلى سلك الشرطة لا يتطلب مستوى علمياً عالياً، وأن المهم فيه هو الجانب البدني والالتزام العسكري فقط.

هذه النظرة تلاشت منذ سنوات، وتغيّرت جذرياً مع مشروع التحديث الذي قاده معالي الفريق أول الشيخ راشد بن عبدالله

آل خليفة منذ توليه مسؤولية وزارة الداخلية. فمنذ ذلك اليوم، أخذت المنظومة الأمنية طريقاً جديداً مختلفاً، يرتكز على العلم قبل السلاح، وعلى المعرفة قبل الإجراءات، وعلى بناء الإنسان قبل بناء الهياكل.

حفل تخرج الدفعتين الخامسة والسادسة في الأكاديمية الملكية للشرطة يقدّم الدليل الأوضح على حجم هذا التحول. اليوم لا نتحدث عن برامج تدريبية اعتيادية، بل عن ماجستير متخصص في الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، حقوق الإنسان، والعدالة الجنائية، والتخطيط لمواجهة الكوارث، شراكات دولية، مساقات دقيقة، ومناهج تُدرّس في أرقى الجامعات العالمية. هذا هو المستوى الذي باتت عليه الكوادر الأمنية في البحرين، وهو مستوى لا يتحقق بالصدفة، بل بقرار، وإرادة، ورؤية واضحة.

يُحسب لمعالي وزير الداخلية أنه نقل الوزارة نقلة نوعية غير مسبوقة، فغيّر الصورة النمطية للداخلية من جهاز يُعرف حصرياً بالجوانب الأمنية إلى مؤسسة وطنية شاملة تعمل وفق منظور إنساني وتنموي، وتتقاطع مهامها مع الإصلاح الاجتماعي، وبرامج التأهيل، والدعم النفسي، وتوعية المجتمع، وترسيخ القيم الوطنية. هذه ليست شعارات، بل واقعاً ملموساً تكرّسه برامج إصلاحية وإنسانية أثبتت نجاحها، وأصبحت جزءاً من بناء المجتمع ذاته.

التحول الأعمق كان في الاهتمام بالعنصر البشري. فالوزارة اليوم لا تستقطب فقط الأكفاء من أصحاب المؤهلات العالية، بل تعمل على تطوير كوادرها بشكل مستمر عبر الأكاديمية الملكية للشرطة، التي أصبحت مصنعاً للمعرفة المهنية، وورشة مستمرة لإعداد رجل الأمن المتكامل، فرد قوي البنية، حاضر الذهن، ملمّ بعلوم العصر، قادر على التعامل مع الذكاء الاصطناعي بقدر قدرته على التعامل مع أصعب المواقف الميدانية.

أثبتت الأكاديمية أن التطوير ليس مجرد دورات، بل مساراً معرفياً عميقاً يضع رجل الأمن في قلب التطور العلمي العالمي. وهنا يبرز الفارق الحقيقي، نحن لا نخرّج أفراداً فقط، بل نبني نموذجاً جديداً لرجل الأمن الشامل الذي يجمع بين القوة العلمية والإنسانية والميدانية.

واليوم، وبعد أكثر من عقدين من العمل الصامت والهادئ، يمكن القول إن وزارة الداخلية لا تحتاج إلى الاستعراض بما حققته، لأن الواقع يتحدث عنها. من يتابع مسيرة التطوير يدرك أن هناك مشروع دولة يُبنى بإرادة وطنية مسؤولة، وأن ما تحقق امتداد طبيعي لأسس وضعها المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، والذي جعل الإنسان البحريني هو محور التنمية وهدفها.

هذا التراكم من التطوير، والاعتماد على العلم، والارتقاء بالكفاءات، قدّم لنا نموذجاً فعلياً لوزارة داخلية حديثة، وزارة تصنع الأمن بمعناه الشامل، وتُخرّج رجال أمن ليسوا مجرد منفذين للمهام، بل قادة معرفة وقدرة. وهذا ما يجعلنا نُدرك قيمة هذا الإنجاز الوطني، ونقول شكراً لمن بنى، ولمن آمن بالكوادر، ولمن جعل من رجل الأمن البحريني قصة نجاح حقيقية تستحق الاحترام.