كان البيان الختامي للقمة الخليجية لعام 2025 في البحرين أشبه بمرآة صافية تعكس ملامح اللحظة الخليجية الراهنة؛ لحظة تتقاطع فيها مسارات التنمية والأمن والاستقرار مع نبض شعوبٍ تحتفل بإنجازاتها الوطنية، وتتهيأ لعبور مرحلة جديدة من العمل المشترك بروح أكثر نضجاً وواقعية.
لم يكن الحدث مجرّد اجتماع دوري لقادة المنطقة، بل كان إعلاناً صريحاً عن انتقال مجلس التعاون الخليجي من مرحلة ردود الأفعال إلى مرحلة صناعة الأفعال، ومن مربع التنسيق إلى مستوى التكامل المتقدم، في ظل عالم لا ينتظر المتردّدين ولا يرحم البطيئين.
لقد جاء البيان الختامي محمّلاً برسائل سياسية غير مباشرة، تؤكد أن دول الخليج العربي تدرك حجم التحديات وتقرأ بعناية خرائط التغير الإقليمي والدولي، من اضطرابات أسواق الطاقة إلى تحولات التكنولوجيا، ومن تعقّد الملفات الأمنية إلى تجدد أسئلة الاقتصاد الرقمي.
ما يلفت الانتباه أن القمة انعقدت في توقيت تحتفل فيه البحرين بأيامها الوطنية، ليبدو المشهد أشبه بتلاقي رمزين: رمز الاحتفال بالدولة الحديثة ومنجزها، ورمز المشروع الخليجي المتجدّد في عهد يزداد رسوخاً.
يُظهر البيان أن دول الخليج العربي باتت أكثر إدراكاً لضرورة الانتقال من التعاون إلى الاندماج الفعلي، فالأرقام التي شهدناها خلال العقد الأخير ليست مجرّد مؤشرات اقتصادية، بل معالم لطريق طويل قطعته المنطقة بثبات، فمعدلات التجارة البينية تضاعفت مقارنة ببداية العقد الماضي، والاستثمارات المشتركة ارتفعت بنسبة تقارب 30% في قطاعات الطاقة المتجددة والاقتصاد الرقمي والأمن السيبراني، أما على مستوى الأمن الإقليمي، فقد عزّزت دول المجلس منظومات الإنذار المبكر والدفاع السيبراني، وانتقلت من مرحلة التنسيق الأمني إلى بناء شبكات دفاع متكاملة تتعامل مع التهديدات العابرة للحدود بآليات مشتركة وفاعلة، كاستجابة طبيعية لعصر تتلاشى فيه الحدود التقليدية.
ويكشف البيان عن نية واضحة للانتقال إلى مرحلة مؤسسية جديدة في العمل الخليجي، حيث يصبح التكامل الاقتصادي رؤية عملية لا شعاراً.
فالحديث عن السوق الخليجية المشتركة، والعملة الرقمية الموحدة، وتسهيل حركة رؤوس الأموال والعمالة، يعكس إدراكاً بأن المستقبل لن ينتظر من يتباطأ في اتخاذ القرار.
لقد أثبتت التجارب السابقة أن التحديات الكبرى من الأزمات -الطاقة إلى الأوبئة إلى التوترات الإقليمية- كانت دائماً أكثر رحمة حين واجهتها دول المجلس بصورة جماعية، بينما كانت أكثر قسوة حين حاول كل طرف أن يخوضها بمفرده.
أما البُعد السياسي للبيان، فقد جاء في سياق إقليمي شديد التعقيد، فالقمة حملت رسائل واضحة حول تمسّك دول الخليج العربي بثوابتها: احترام القانون الدولي، ودعم الاستقرار، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية مع القوى الدولية، ورفض كل أشكال التدخل في الشؤون الداخلية.
لقد أدركت دول الخليج أنها لاعب أساسي في الجغرافيا السياسية للمنطقة، وأن وزنها لم يعد مجرد انعكاس لموقعها أو مواردها، بل لنهجها السياسي المتزن، واستقلاليتها المتنامية، وقدرتها على إدارة شبكة علاقات متوازنة مع الشرق والغرب على حد سواء.
وفي ظل هذه الرؤية، يظهر أن مستقبل مجلس التعاون الخليجي لن يكون تكراراً لماضيه، بل إعادة تشكيل له بصيغة أكثر جرأة، فالبيان يتحدث عن اقتصادات خضراء، وعن تحويل المنطقة إلى مركز عالمي للطاقة المتجددة والهيدروجين، وعن مضاعفة الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي والصناعات الدفاعية، وعن اتجاه واضح نحو بناء منظومة خليجية موحدة لإدارة البيانات والأمن السيبراني.
هذه ليست أحلاماً بل خطوات بدأ تنفيذها بالفعل في برامج الرؤى الوطنية لدول المجلس. ويأتي العمل الخليجي ليمنحها بعداً تكاملياً يزيد قيمتها وقوتها.
إن القمة الخليجية في البحرين هذا العام لم تكن حدثاً بروتوكولياً، بل محطة سياسية تُعيد رسم معادلة الخليج العربي في زمن كثيف بالتحولات. لقد قدّم البيان الختامي رؤية تتجاوز اللحظة، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة تقوم على ثلاث ركائز: تكامل اقتصادي أعمق، وأمن جماعي أكثر تنسيقاً، وعلاقات إقليمية ودولية أكثر نشاطاً وجرأة.
وفي ظل هذا المسار، يبدو أن الخليج العربي يدخل عهداً جديداً، لا يعتمد فقط على إرثه التاريخي، بل على قوته المتنامية، واستراتيجيته الواضحة، وثقته المتزايدة بأن مستقبله يُصنع بيده، وبيد شعوبه القادرة على تحويل الرؤية إلى فعل، والفعل إلى إنجاز قابل للدوام والنمو.
* إعلامية وباحثة أكاديمية