في أحد دفاتر التاريخ، وتحديداً في دفتر الحرب العثمانية الروسية، وقف قائد عسكري عثماني على أطراف المعركة، وأخذ يرسل أوامره تباعاً إلى آمر المدفعية، وكانت الأوامر عبارة عن أهداف، فكلها من نوع، اقصف الموقع الفلاني، أضرب المكان الفلاني، وكل ذلك بواسطة مراسلين يحملون أوامره، لكن آمر المدفعية لم ينفذ أياً منها، والنتيجة كانت خسارة المعركة، لم يحتمل القائد تجاهل أوامره، وعندما التقى بآمر المدفعية بعد المعركة، أمسكه من ياقة قميصه وسحب أذنه وقال له صارخاً: لماذا لم تنفذ أوامري؟ فرد آمر المدفعية بكل هدوء أعصاب، قائلاً: سيدي، لدي عشرون سبباً كي لا أنفذ أوامرك! فقال له القائد، اذكرها، قال أولاً ليس لدي بارود! فما كان من القائد إلا أن قال له: اسكت ولا تذكر باقي الأسباب!
هذه القصة مع كونها واقعية إلا أنها ليست عن حرب انتهت ولا عن ضابط طُرد ولا عن مدفع خرج عن الخدمة، القصة عبارة واقع يتكرر في كل زمان ومكان، حيث تسأل أحدهم، لماذا لم تنجز عملك؟ فيأتيك رد على وزن، عندي عشرون سبباً، تطلب منه أن يشرح لك الأسباب فيذكر لك أولها فيتبين لك أنه سبب قاتل، لا يمكن تنفيذ المهمة مع وجوده، أما باقي الأسباب فيذكرها أيضاً لكنها تبدو بجانب السبب الأول كأنها موسيقى تصويرية، حزينة، لا ترغب بعدها بسماع الباقي، المشكلة الحقيقية تكمن في أن كثيراً من الناس ليس لديهم أسباب حقيقية، إنما لديهم القدرة على التفنن في اختلاقها وإيجادها من العدم، فصارت تقنية فاعلة للتهرب من المسؤوليات، كل واحد منا أصبح آمر مدفعية صغير، يعلق نفسه على شماعة الأسباب، فما بين "الجو حار" و "الظروف لا تسمح" نؤجل كل شيء إلى أجل غير مسمى، وما أن يفكر أحد في مناقشتنا أسباب إخفاقنا حتى نقول له: لا تحرجنا، لدينا أسباب، والحقيقة كثير منا يختبئ خلفها، حتى لا نواجه حقيقة أن العشرين سبباً ليست أكثر من أعذار ناعمة نغلف بها إخفاقنا وتلكؤنا اليومي.
لا أحد يطلب منّا أن نُطلق المدافع، أو أن نخوض الحروب، أو أن نغيّر الكون في غفلة من الزمن، لكن على الأقل، لنحاول أن نملأ المدفع بالبارود أو حتى بالنية الطيبة! فلعل أول سبب يمنعنا من الإنجاز، هو أننا نبدأ القصة من "ليس لدينا"، وننتهي قبل أن نحاول، أما التسعة عشر سبباً الباقيات؟
فأتركها لكم، واحفظوها لسهرة مع الضمير.
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية