تمثّل التربية بالقدوة الحسنة أحد أعمدة التربية النبوية الشاملة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الأكمل والمثل الأعلى في الهَدْي والاقتداء، والنّموذج الأرقى في التربية العملية، فكان قدوة في الأخلاق والتعامل، والزهد والعبادة، والعطاء والسخاء، والشجاعة والشهامة، والتواضع والحلم، والثبات والعزيمة، والرحمة واللين، والصدق والأمانة وسائر معالي الأخلاق، قال تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، «الأحزاب: 21»، أي أسوة في أقواله وأفعاله وأحواله، وصبره ومجاهدته، وانتظاره الفَرَجِ مِنْ ربّه، كما بيّن ابن كثير رحمه الله.

إن القدوة العملية أعمق تأثيراً من آلاف الكلمات، وأشد وقعاً في النفوس من أساليب الأمر والنهي، فالطفل بطبيعته مرآةٌ لوالديه؛ يقلدهما ويحاكيهما ويتخلق بأخلاقهما، قال صلى الله عليه وسلم:»كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ، فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه»، «أخرجه البخاري: 1385».

وقال الشاعر:وينشأ ناشئُ الفتيانِ منّاعلى ما كان عوّده أبوهوفي حياة الصحابة نماذج عملية بديعة؛ فهذا ابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام صغير يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقوم لقيام الليل، فيتشبه به ويقف بجواره ليصلي معه، وهكذا نمت لديهم الأخلاق بالتتلمذ العملي قبل التوجيه اللفظي.

وكان السلف يعتنون بانتقاء القدوات والمعلمين، ويهتمون بتهيئة البيئة الصالحة التي تُنشئ أبناءهم على مكارم الأخلاق ومحامد الشيم، وعلى البلاغة، والفروسية، والصدق، والشجاعة، وكانوا يدفعون أولادهم إلى أوثق المؤدِّبين خلقاً وعلماً.

روى الجاحظ في البيان والتبيين «2/73» أن عقبة بن أبي سفيان قال لمؤدِّب ولده:

«ليكن أوّلُ ما تبدأ به من إصلاح بنيَّ إصلاحُ نفسك؛ فإن أعينهم معقودةٌ بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح ما استقبحت» وهي وصيةٌ تؤكد أن صلاح المربي مقدمة لصلاح المتربي، وأن أعين الأبناء تتعلق بأفعال مربيهم قبل ألفاظه.

فالمربي يزرع في الطفل القيم الكبرى بأفعاله قبل دروسه؛ يعلّمه الصدق بصدقه، والأمانة بأمانته، والعطاء بسخائه وبعده عن الأنانية.

ويذكر المسعودي في مروج الذهب «3/254» أن هارون الرشيد قال لمؤدِّب ابنه الأمين: «يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجةَ نفسه وثمرةَ قلبه، فاجعل يدك عليه مبسوطة وأدبك مقروناً بالرفق، وعلّمه القرآن والشعر وأخبار العرب، وبصّره بمواقع الكلام وبدئه».

وفي الدولة الأيوبية كان صلاح الدين رحمه الله يُلزِم أبناءه حضور مجالس المحدثين والفقهاء، كما في «النوادر السلطانية، 36» ليؤكد أن العلم والقدوة هما أساس صلاح النفس والمجتمع.

إن هذه المواقف والوصايا تشترك جميعها في حقيقة واحدة: أن القدوة ليست خياراً تربوياً مُضافاً، بل هي الأصل الذي تُبنى عليه التربية كلها، والإهمال في هذا الجانب قد يورث أجيالاً مضطربة، تبحث عن قدواتها في أماكن لا تليق.

- شمعة أخيرة:

في زمنٍ اقتحمت فيه التكنولوجيا أطفالنا عبر الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية، يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: من قدوة أبنائنا اليوم؟ من يوجّه رؤيتهم؟ وبمن يتأثرون؟ وماذا يشاهدون وبمن يُعجبون؟فالقدوة إن لم نزرعها نحن، ستزرعها الشاشات، والمشاهير!! وإلى الله المشتكى.

* دكتوراه في الأدب العربي وتربوي