لم تعد مراكز البحث مجرد مؤسسات تنتج تقارير أو تحفظ وثائق، بل أصبحت في العالم الحديث ما يشبه «الحكومة الخفية» التي تصوغ الأفكار وتوجّه السياسات وتستشرف التحولات قبل وقوعها.

هكذا وصف أحد الخبراء في منتدى دراسات السابع، وهو مؤتمر من الطراز الأول، يعكس المصداقية والجدية والقدرة على إحداث الفارق، وفيه قال نخبة الخبراء المشاركون إن الدول التي تستثمر في المعرفة لا تنتظر المستقبل، بل تصنعه عبر منظومات بحثية قادرة على قراءة الواقع وتحويل البيانات إلى رؤى قابلة للتطبيق. فالعالم العربي اليوم يواجه تحديات متسارعة، إذ تبرز أهمية هذه المراكز بوصفها العقل الاستراتيجي الذي يمنح صانع القرار بوصلة فكرية واضحة، ويمنع السياسات من التحول إلى ردود أفعال متأخرة.

وفي البحرين، ومن خلال أطروحات المنتدى يتجلى هذا الدور بوضوح من خلال مراكز بحثية أثبتت قدرتها على الابتكار وصناعة المعرفة، وفي مقدمتها مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»، الذي رسّخ حضوره كمؤسسة بحثية رائدة قادرة على تحويل التجربة الوطنية إلى معرفة قابلة للتوسع عربياً ودولياً. إذ أسهم «دراسات» في توثيق التجربة الاقتصادية البحرينية، وفي دعم صانع القرار بتحليلات معمّقة، وفي بناء جسور بين البحث العلمي والسياسات العامة. ومن هنا تأتي الإشادة بدوره الريادي، وبجهوده التي جعلت من البحرين نموذجاً عربياً في الاستثمار في العقل البحثي، لا في البنية التحتية فقط.

إن الإبداع داخل المراكز البحثية لم يعد خياراً، بل ضرورة وجودية. فالتحديات الجديدة -من الذكاء الاصطناعي إلى التحولات الاقتصادية- لا يمكن التعامل معها بأدوات الأمس. والمراكز التي لا تبتكر تتحول سريعاً إلى «مكتبات صامتة» لا تأثير لها. أما المراكز التي تُحسن قراءة السياق المحلي، وتربط بينه وبين الأطر العالمية، فهي القادرة على إنتاج حلول واقعية تمنع تكرار أخطاء «السياسات المنقولة» التي تفشل في نصف الحالات لأنها لا تراعي خصوصية المجتمعات.

إن مستقبل البحرين -كما مستقبل الدول العربية- لن يُبنى فقط على الاستثمارات الاقتصادية، بل على بنية معرفية صلبة تقودها مراكز بحث تمتلك الجرأة على السؤال، والقدرة على التحليل، والخيال اللازم لابتكار حلول جديدة. فالدول التي لا تنتج معرفة تبقى مستهلكة لأفكار الآخرين، والدول التي لا تستثمر في البحث تتحول إلى متلقٍ دائم للتجارب بدل أن تكون مصدراً لها. ومن هنا، يصبح دعم مراكز الفكر ركيزة استراتيجية لصناعة مستقبل عربي أكثر وعياً وقدرة وابتكاراً، إضافة إلى أهمية امتلاك أدوات تحليل متقدمة. ودراسة معمّقة، تشخيص واقعي للمشاكل، واستخدم نماذج تنبؤية تعتمد على الذكاء الاصطناعي بما يتوافق مع طبيعة المجتمع وحالته إمكانياته.

من النقاط المهمة التي طرحت أيضاً، أن المركز البحثي الحقيقي لا يفرض أفكاراً جاهزة، بل ينطلق من المجتمع نفسه، ويختبر كل توصية وفق معيارين: قابليتها للتطبيق، وقدرتها على إحداث أثر ملموس. وهكذا يتحقق التوازن بين الطموح العلمي والواقع الاجتماعي، وتبرز أهمية هذا التوازن في عالم عربي يواجه تحديات متسارعة، حيث يصبح دور المراكز البحثية محورياً في حماية المجتمعات من القرارات غير المدروسة، وفي الوقت نفسه دفعها نحو الابتكار والتطوير. فحين تُبنى السياسات على معرفة دقيقة، وتُصاغ التوصيات بما يتناسب مع قدرات المجتمع واحتياجاته، تتحول المراكز البحثية إلى قوة تنموية حقيقية، مع تقديم حلول قابلة للتطبيق، وصياغة مستقبل أكثر وعياً واستدامة.