إن مما يدركه أصحاب العقول أن حياة الناس لا تخلو من خلافات ومخاصمات ومشاحنات، وطلب الحق والعدل، والسعي وراءه مطلب للنفوس البشرية، ولكن العيب والخزي والعار إذا تجاوز ذلك إلى البغي والفجور في الخصومة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». أخرجه البخاري.
والفاجر في الخصومة يعلم علم اليقين وفي أحيان كثيرة أن الحق ليس معه، فيجادل بالباطل ويحلف بالباطل، فيقع فيما نهى عنه الله عز وجل بقوله: «ولاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ»، «البقرة: 188»، وقال بعض السلف: «هذا في الرجل يخاصم بلا بينة ويعرف أن الحق عليه».
إننا والله أمام أمر عظيم في شرف الخصومة فالرجل مع زوجته إذا تخاصما بغياً على بعض في الحديث وقل مثل ذلك مع أهلهم فكل يفجر في خصومته ويكذب ويفتري، وكذلك المدير مع موظفيه وصاحب الحق مع جاحده، ومن كان في ريب فليستمع إلى كثير ممن له مشكلة في محكمة أو إدارة أو نحوها، كثير منا لا يفرق بين أن تطلب حقك بالصدق والأمانة، وبين أن تتحول إلى ظالم باغٍ منقلب عن الخلق الرفيع؛ لا بأس أن تدافع عن حقوقك المشروعة بطريقة مشروعة واضعاً نصب عينيك العدالة مع الخصم حتى لا تفقد توازنك وتخرج عن الأدب الشرعي الذي أمرك الله به، ويجب أن تركز على موطن الخلاف وعلى أساس القضية وأن تبتعد كل البعد عن السباب والشتائم التي لا يليق بك إتيانها وأن تتحرى الصدق في كل ما تقوله.
مع الأسف الشديد امتلأت المحاكم، وصفحات الصحف، ومواقع التواصل الاجتماعي، وتقارير الدوائر والمؤسسات في هذا العصر من هذا النوع البغيض من الخصومات والمشاحنات دون مراعاة لحدود الله تعالى وشرعه، ودون مروءة ورجولة، ودون اعتبار إلى جنة ونار يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فلا يخفى على أحدٍ أن الخصومة بين الناس أمرٌ واقعٌ لا محالة بينهم إلا من رحم ربي؛ لأن كثيراً من الخلطاء لَيبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم. إن عدم الاختلاف والخصومة كان هو الأصل غير أن ذلك قد طرأ منذ أن قتل أحد ابني آدم الآخر، فانقلبت الحال ليصبح الخلاف والخصومات أمراً لا مناص منه.
ولأجل هذا جاءت الشريعة الغراء ذامةً للخصومة فاضَّةً للنزاع محذرةً من التجاوز فيهما والخروج عن الإطار المشروع لهما؛ وهو طلب الحق؛ لتجعل مَنْ تجاوز ذلكم ممن أتسم بسمة من سمات المنافقين؛ وهي الفجور في الخصومة الذي هو الميل وتجاوز الحد والحق.
لذا تذكّر أخي الكريم وأختي الكريمة أن محكمة الدنيا حكمت لك بكسب القضية حسب المعطيات المعروضة عليها من شهادة قدمتها ومستندات، وكذب، وافتراء، وواسطة، ومحامٍ ذكي كما يقال وغير ذلك. ولكن ستفتح الدعوى هذه عند الله يوم القيامة من جديد ليأخذ كل ذي حق حقه؛ فلا شهود ولا مستندات ولا محامٍ ولا واسطة.
فالواجب على المسلم الحق أن يتعلّم فضيلة وخلق العفو والتسامح والصدق والأمانة في الخصومة، وألا يجعل الخصومة سبيلاً إلى معاداة الناس ومحاولة إيقاع الأذى بهم ؛ وإرجاع الحقوق إلى أصحابها في الدنيا قبل الآخرة، فإن ذلك ليس من أخلاق المسلمين.