هكذا تحبنا ماما، بطريقتها الخاصة.
والدتي لا تقبلنا، ولا تفتح لنا الأحضان دائماً، بل تلاحقنا بالأطباق التي تعدها وتقف فوق رؤوسنا ونحن نتناولها لتعرف رأينا، وتقرأه في تعابير وجوهنا قبل أن ننطق بكلمة.
وهكذا فعلت في سلوفينيا.
في محطة القطار «دبوفا» التي تستقبل اللاجئين القادمين من كرواتيا، كانت درجات الحرارة منخفضة جداً، تصل أحياناً للصفر، قضينا ما يقارب الأربعة أيام ونحن نتناول البسكويت والشوكولاتة والفطائر المغلفة كوجبات، لم نتناول وجبة ساخنة منذ أن بدأنا التطوع في المحطة. فقد كان يتوافد ما يقارب الألفي لاجئ كل ساعتين، لم نكن نملك الوقت لأخذ استراحة حتى، نبدأ باستقبالهم، وفرزهم من أجل الحصول على أوراق العبور، وإعداد أكياس بداخلها بعض الطعام والفاكهة، والبحث عن ملابس ثقيلة لمن كان يرتدي الملابس الصيفية في هذا البرد القارص.
كانت فكرة أن نجلس من أجل إعداد وجبة ساخنة فكرة مترفة لا تتناسب لا مع المكان ولا الوضع الذي نحن فيه، فكنا نأكل على عجالة ما نجده أمامنا ونكمل عملنا.
يومها كنت في مخيم يبعد عن المحطة ما يقارب الـ10 دقائق، يضم هذا المخيم اللاجئين الذين يعبرون سلوفينيا ولم يتم تسجيل أوراقهم رسمياً إما بسبب حالة الطقس التي لا تسمح للآلاف بالانتظار في الخارج، أو بسبب العدد الهائل، فكانوا يجمعونهم في مخيم بسيط، فيه دورات المياه المتنقلة، وخيمة دافئة ويقدمون لهم الطعام، والمساعدات الطبية، يومها كانت مناوبتي في الخيمة الطبية أن أترجم للأطباء مشاكل اللاجئين الصحية.
عدت من مناوبتي تعبة، أبحث عن والدتي التي ترافقني في جميع رحلاتي «مع اللاجئين» وبقية الفريق الذين تركتهم في محطة القطار، لأجدهم مجتمعين حول قدر طعام ضخم، أعضاء الرحلة ومتطوعين من مختلف بلدان العالم، ومسعفين وبعض الجنود، الفكرة الأولى التي خطرت في بالي أن هناك خطباً ما، وما إن اقتربت حتى وجدت والدتي «تغرف» من القدر «الكشري» وتوزعه عليهم.
سألتها مستغربة ضاحكة: «ماما سويتي كشري بسلوفينيا؟»، فأجابت: «أي، حبايبي عيالي مو ماكلين وجبة مفيدة من أيام».
لا شعورياً، اقتربت منها وقبلت رأسها ويديها.
لم يكن طبق كشري أُعد سريعاً، كان طبقاً تم إعداده بحب واهتمام، اهتمت بالصلصة وتزيين الرز بالبصل أيضاً.
تجمعنا على وجبة دافئة لأول مرة منذ أن بدأت رحلتنا التطوعية، وضحكنا، وشكرناها جميعنا، وحدي وقفت من بعيد أتأمل المشهد.
ففي كل مرة يخبرونني بأنني أشبهها، أتمنى في سري لو كنت أشبهها في أكثر من الملامح الخارجية، في قوتها، في صلابتها، التي تتحول لحنية في أوقات الحاجة.
لابتسامتها التي إما أن تخرج صادقة وإلا فلا.
للمعارف الذين يحيطون بها بحب، ولاعتزازها بعمرها، واعترافها بأخطائها دون خجل.
لاعتزازها بي وحبها الذي يفوق استحقاقي.
فماذا يمكن أن أقول لها في يومها؟
ماما: كل يوم وأنتِ أقرب، كل يوم وأنت وحدكِ الجذر، تربطينني بكِ فأعود.. دائماً ما أعود وأنسى أنني لم أُخلق للبقاء.
وحدكِ الثابت الجميل وسط المتغيرات، ووحدكِ كل الأمان، ووحدكِ تحبينني بلا سبب، وأنا أحبكِ من أجل كل الأسباب.
كل يوم وأنتِ ابنتي، حبيبتي، صديقتي، والأعظم مشجعتي الأولى، وسندي في هذه الحياة.
كل يوم وأنتِ قلب هذا العالم.
ورضاء الله علي.
والدتي لا تقبلنا، ولا تفتح لنا الأحضان دائماً، بل تلاحقنا بالأطباق التي تعدها وتقف فوق رؤوسنا ونحن نتناولها لتعرف رأينا، وتقرأه في تعابير وجوهنا قبل أن ننطق بكلمة.
وهكذا فعلت في سلوفينيا.
في محطة القطار «دبوفا» التي تستقبل اللاجئين القادمين من كرواتيا، كانت درجات الحرارة منخفضة جداً، تصل أحياناً للصفر، قضينا ما يقارب الأربعة أيام ونحن نتناول البسكويت والشوكولاتة والفطائر المغلفة كوجبات، لم نتناول وجبة ساخنة منذ أن بدأنا التطوع في المحطة. فقد كان يتوافد ما يقارب الألفي لاجئ كل ساعتين، لم نكن نملك الوقت لأخذ استراحة حتى، نبدأ باستقبالهم، وفرزهم من أجل الحصول على أوراق العبور، وإعداد أكياس بداخلها بعض الطعام والفاكهة، والبحث عن ملابس ثقيلة لمن كان يرتدي الملابس الصيفية في هذا البرد القارص.
كانت فكرة أن نجلس من أجل إعداد وجبة ساخنة فكرة مترفة لا تتناسب لا مع المكان ولا الوضع الذي نحن فيه، فكنا نأكل على عجالة ما نجده أمامنا ونكمل عملنا.
يومها كنت في مخيم يبعد عن المحطة ما يقارب الـ10 دقائق، يضم هذا المخيم اللاجئين الذين يعبرون سلوفينيا ولم يتم تسجيل أوراقهم رسمياً إما بسبب حالة الطقس التي لا تسمح للآلاف بالانتظار في الخارج، أو بسبب العدد الهائل، فكانوا يجمعونهم في مخيم بسيط، فيه دورات المياه المتنقلة، وخيمة دافئة ويقدمون لهم الطعام، والمساعدات الطبية، يومها كانت مناوبتي في الخيمة الطبية أن أترجم للأطباء مشاكل اللاجئين الصحية.
عدت من مناوبتي تعبة، أبحث عن والدتي التي ترافقني في جميع رحلاتي «مع اللاجئين» وبقية الفريق الذين تركتهم في محطة القطار، لأجدهم مجتمعين حول قدر طعام ضخم، أعضاء الرحلة ومتطوعين من مختلف بلدان العالم، ومسعفين وبعض الجنود، الفكرة الأولى التي خطرت في بالي أن هناك خطباً ما، وما إن اقتربت حتى وجدت والدتي «تغرف» من القدر «الكشري» وتوزعه عليهم.
سألتها مستغربة ضاحكة: «ماما سويتي كشري بسلوفينيا؟»، فأجابت: «أي، حبايبي عيالي مو ماكلين وجبة مفيدة من أيام».
لا شعورياً، اقتربت منها وقبلت رأسها ويديها.
لم يكن طبق كشري أُعد سريعاً، كان طبقاً تم إعداده بحب واهتمام، اهتمت بالصلصة وتزيين الرز بالبصل أيضاً.
تجمعنا على وجبة دافئة لأول مرة منذ أن بدأت رحلتنا التطوعية، وضحكنا، وشكرناها جميعنا، وحدي وقفت من بعيد أتأمل المشهد.
ففي كل مرة يخبرونني بأنني أشبهها، أتمنى في سري لو كنت أشبهها في أكثر من الملامح الخارجية، في قوتها، في صلابتها، التي تتحول لحنية في أوقات الحاجة.
لابتسامتها التي إما أن تخرج صادقة وإلا فلا.
للمعارف الذين يحيطون بها بحب، ولاعتزازها بعمرها، واعترافها بأخطائها دون خجل.
لاعتزازها بي وحبها الذي يفوق استحقاقي.
فماذا يمكن أن أقول لها في يومها؟
ماما: كل يوم وأنتِ أقرب، كل يوم وأنت وحدكِ الجذر، تربطينني بكِ فأعود.. دائماً ما أعود وأنسى أنني لم أُخلق للبقاء.
وحدكِ الثابت الجميل وسط المتغيرات، ووحدكِ كل الأمان، ووحدكِ تحبينني بلا سبب، وأنا أحبكِ من أجل كل الأسباب.
كل يوم وأنتِ ابنتي، حبيبتي، صديقتي، والأعظم مشجعتي الأولى، وسندي في هذه الحياة.
كل يوم وأنتِ قلب هذا العالم.
ورضاء الله علي.