شخصياً، كان يوم أمس مميزاً جداً، رغم أنه جمعني في صباحه باجتماع عمل في هيئة الثقافة والآثار إلا أنه تحول لتجربة مميزة حركت داخلي الكثير تجاه إرثنا البحريني التاريخي.
شابان مميزان يحق للبحرين أن تفخر بهما، الشيخة هلا بنت محمد آل خليفة مديرة إدارة الثقافة والفنون، والشيخ خليفة بن أحمد بن عبدالله آل خليفة مدير إدارة المتاحف، تستمتع وأنت تتحدث معهما بل وتفكر معهما، والجميل أن في كل الأفكار التي تطرح تجد البحرين وإبراز إرثها التاريخي وبيان مخزونها الجمالي والثقافي والفني في مقدمة كل شيء.
كنت في فترات متقطعة دائماً أفكر في مقارعة المقولة السائدة بأن «الثقافة غذاء للروح»، لقناعة بأن قراءة الكتب والانغماس فيها ليست مقياساً لثقافة الفرد، ولا لمدى تأصل الأدب فيه، فكثيراً مما نقرأه يتبخر سريعاً، لأننا لا نضع ما نستخلصه موضع التنفيذ والتطبيق، فإن لم تغير الثقافة والاطلاع فيك شيئاً، فلا فائدة منهما، لا لعدم جدوى في تلك المصادر المعرفية المتنوعة، بل لأن الخلل يكمن فينا إن لم تكن أنفسنا مرنة قابلة للتأثر والاستفادة.
أذكر أننا في صغرنا، ولربما أتحدث عن تجربتي الشخصية التي قد يشاركني كثير فيها، كنا نفرح إن أخذتنا مدرستنا في رحلة لمتحف البحرين الوطني، إذ هذا المكان الذي يضم فيه لمحات من تاريخ البحرين القديم، ويكشف عراقة تراثها وإرثها الضخم، كان يمثل لنا شيئاً كبيراً مميزاً، لربما أدركنا العلاقة لاحقاً حينما كبرنا قليلاً، بأنه يمثل أصالتنا والتصاقنا بهذه الأرض، هو يمثل لنا جذورنا، يمثل لنا البحرين بترابها وتاريخ أهلها وكل شيء جميل عاشوه في ذاك الزمن الجميل.
لذلك تحول الاجتماع في نهايته لجولة مميزة في أحدث إضافتين، الأولى في المعرض الفني الذي قدم وصمم بصورة ذكية، تمثل قالباً جمالياً تعودنا عليه وعلى أفكاره المبتكرة الفريدة التي تميز عمل رئيسة الهيئة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وأعني به معرض العلاقات البحرينية البريطانية التي تعود لأكثر من 200 عام، وكيف يسير بك المعرض في رحلة زمنية على امتداد قرنين تبين لك حجم العلاقات، ورحلات الاستكشاف وتوثيقها فيما سبق اكتشاف النفط وما تلاه.
المثير أن الفكرة بدأت بمجموعة صور قديمة لعائلة بريطانية تحكي من خلالها حياتها اليومية في البحرين، واستمتاعها بمواقعنا الأثرية ومراكز النهضة العمرانية، وكيف أن هذه الفكرة كانت «نواة» لفكرة أعظم وأكبر، طورتها المخيلة الخلاقة للشيخة مي لتصنع معرضاً يكشف علاقات البحرين الصافية الراقية مع دولة صديقة، هي نموذج لعلاقات تميزت بها مملكتنا على مرور الأجيال والعقود مع دول عديدة.
أما المشروع الأروع والأكثر جمالية، هو ذاك الإبهار الذي يؤسرك حينما تدخل القسم المعني بمشروع طريق اللؤلؤ. فكرة عبقرية مبنية على توثيق تاريخ البحرين العريق في هذه الصناعة التاريخية، لكنه ليس كأي توثيق. عملية مرتبطة بالإنسان نفسه، مقدمة بأبلغ صور الإبداع الذي يمتد لأصغر التفاصيل.
هذا المشروع يصعب استيعابه بالشرح والوصف والكلمات المجردة، إذ لابد لفهمه ومعرفة أدق تفاصيله زيارة متحفنا الرائع، فالمرور بين أقسامه يبين لك أصالة هذا المشروع، وما سيعكسه من صورة جميلة تاريخية عن البحرين وأهلها، يكفي أن الأمم المتحدة أشادت به واعتبرته نموذجاً راقياً للتوثيق التاريخي، ويزيد عليه الاستفادة لأكثر من 400 منزل في المحرق العريقة يمضي العمل على ترميمها وتعديلها وتحسينها على نفقة المشروع والذي ساهم البنك الإسلامي للتنمية بالشقيقة السعودية في التحمل بتكاليف ضخمة فيه.
يقول لي الشيخ خليفة بن أحمد، بعض العوائل قبل إدراكهم لماهية المشروع كانوا متوجسين مما سيطال بيوتهم الواقعة على مسار المشروع الذي حدد بـ 24 نقطة، لكن ردود الفعل الإيجابية والإشادة والشكر حلت بديلة عن القلق حينما رأوا النتائج، ولمسوا التغيير والتطوير والتحسين الذي طال بيوتهم.
حينما نسافر لدول أجنبية، نذهب بالضرورة للمواقع الأثرية، نتمعن فيها ونحاول معرفة قصصها، أذكر حين كنت صغيراً في أول زيارة لمصر قبل ربع قرن، طلبت من والدي أن يأخذاني للمتحف المصري لأرى المومياوات والأهرام وأبوالهول، ولم تتوقف هذه النزعة، فلا معني لباريس إن لم تزر اللوفر أو قصر فرساي، ولا للندن إن لم تزر متاحفها أو تدخل قلاعها القديمة، بين أن كل هذا الجمال موجود لدينا في البحرين، تاريخنا حافل وعامر، وتوثيقه مهمة صعبة ومعقدة، لكنها ممكنة، والتفوق فيها حينما يكون ذلك مصاحباً بالجمالية والرقي والإبداع في التقديم.
جلالة الملك حفظه الله قال قبل أيام خلال استقباله الشيخة مي، بأن العملية تتعدى مسألة الحفاظ على التراث والتاريخ البحريني، بل التحدي بإظهاره بصورة مشرفة. جلالته يتحدث عن بنية ثقافية مستدامة، تبرز المخزون الغني الذي تمتلكه البحرين من مكتسبات حضارية وإنسانية.
نعم الثقافة غذاء هام للروح، لا يدركه إلا الغائص في بحرها، المقدر لمكنوناتها، المستفيد من كنوزها في رسم وتشكيل حياته.
وحيثما تنشد الإبداع، لابد وأن يكون صاحبه صاحب قضية بل عاشق لها، وهذا ما بتنا نراه بوضوح في شخصية الشيخة مي آل خليفة وعملها.
شكراً لكل جهد وطني، هدفه في البداية والنهاية البحرين ولا شيء آخر.
{{ article.visit_count }}
شابان مميزان يحق للبحرين أن تفخر بهما، الشيخة هلا بنت محمد آل خليفة مديرة إدارة الثقافة والفنون، والشيخ خليفة بن أحمد بن عبدالله آل خليفة مدير إدارة المتاحف، تستمتع وأنت تتحدث معهما بل وتفكر معهما، والجميل أن في كل الأفكار التي تطرح تجد البحرين وإبراز إرثها التاريخي وبيان مخزونها الجمالي والثقافي والفني في مقدمة كل شيء.
كنت في فترات متقطعة دائماً أفكر في مقارعة المقولة السائدة بأن «الثقافة غذاء للروح»، لقناعة بأن قراءة الكتب والانغماس فيها ليست مقياساً لثقافة الفرد، ولا لمدى تأصل الأدب فيه، فكثيراً مما نقرأه يتبخر سريعاً، لأننا لا نضع ما نستخلصه موضع التنفيذ والتطبيق، فإن لم تغير الثقافة والاطلاع فيك شيئاً، فلا فائدة منهما، لا لعدم جدوى في تلك المصادر المعرفية المتنوعة، بل لأن الخلل يكمن فينا إن لم تكن أنفسنا مرنة قابلة للتأثر والاستفادة.
أذكر أننا في صغرنا، ولربما أتحدث عن تجربتي الشخصية التي قد يشاركني كثير فيها، كنا نفرح إن أخذتنا مدرستنا في رحلة لمتحف البحرين الوطني، إذ هذا المكان الذي يضم فيه لمحات من تاريخ البحرين القديم، ويكشف عراقة تراثها وإرثها الضخم، كان يمثل لنا شيئاً كبيراً مميزاً، لربما أدركنا العلاقة لاحقاً حينما كبرنا قليلاً، بأنه يمثل أصالتنا والتصاقنا بهذه الأرض، هو يمثل لنا جذورنا، يمثل لنا البحرين بترابها وتاريخ أهلها وكل شيء جميل عاشوه في ذاك الزمن الجميل.
لذلك تحول الاجتماع في نهايته لجولة مميزة في أحدث إضافتين، الأولى في المعرض الفني الذي قدم وصمم بصورة ذكية، تمثل قالباً جمالياً تعودنا عليه وعلى أفكاره المبتكرة الفريدة التي تميز عمل رئيسة الهيئة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وأعني به معرض العلاقات البحرينية البريطانية التي تعود لأكثر من 200 عام، وكيف يسير بك المعرض في رحلة زمنية على امتداد قرنين تبين لك حجم العلاقات، ورحلات الاستكشاف وتوثيقها فيما سبق اكتشاف النفط وما تلاه.
المثير أن الفكرة بدأت بمجموعة صور قديمة لعائلة بريطانية تحكي من خلالها حياتها اليومية في البحرين، واستمتاعها بمواقعنا الأثرية ومراكز النهضة العمرانية، وكيف أن هذه الفكرة كانت «نواة» لفكرة أعظم وأكبر، طورتها المخيلة الخلاقة للشيخة مي لتصنع معرضاً يكشف علاقات البحرين الصافية الراقية مع دولة صديقة، هي نموذج لعلاقات تميزت بها مملكتنا على مرور الأجيال والعقود مع دول عديدة.
أما المشروع الأروع والأكثر جمالية، هو ذاك الإبهار الذي يؤسرك حينما تدخل القسم المعني بمشروع طريق اللؤلؤ. فكرة عبقرية مبنية على توثيق تاريخ البحرين العريق في هذه الصناعة التاريخية، لكنه ليس كأي توثيق. عملية مرتبطة بالإنسان نفسه، مقدمة بأبلغ صور الإبداع الذي يمتد لأصغر التفاصيل.
هذا المشروع يصعب استيعابه بالشرح والوصف والكلمات المجردة، إذ لابد لفهمه ومعرفة أدق تفاصيله زيارة متحفنا الرائع، فالمرور بين أقسامه يبين لك أصالة هذا المشروع، وما سيعكسه من صورة جميلة تاريخية عن البحرين وأهلها، يكفي أن الأمم المتحدة أشادت به واعتبرته نموذجاً راقياً للتوثيق التاريخي، ويزيد عليه الاستفادة لأكثر من 400 منزل في المحرق العريقة يمضي العمل على ترميمها وتعديلها وتحسينها على نفقة المشروع والذي ساهم البنك الإسلامي للتنمية بالشقيقة السعودية في التحمل بتكاليف ضخمة فيه.
يقول لي الشيخ خليفة بن أحمد، بعض العوائل قبل إدراكهم لماهية المشروع كانوا متوجسين مما سيطال بيوتهم الواقعة على مسار المشروع الذي حدد بـ 24 نقطة، لكن ردود الفعل الإيجابية والإشادة والشكر حلت بديلة عن القلق حينما رأوا النتائج، ولمسوا التغيير والتطوير والتحسين الذي طال بيوتهم.
حينما نسافر لدول أجنبية، نذهب بالضرورة للمواقع الأثرية، نتمعن فيها ونحاول معرفة قصصها، أذكر حين كنت صغيراً في أول زيارة لمصر قبل ربع قرن، طلبت من والدي أن يأخذاني للمتحف المصري لأرى المومياوات والأهرام وأبوالهول، ولم تتوقف هذه النزعة، فلا معني لباريس إن لم تزر اللوفر أو قصر فرساي، ولا للندن إن لم تزر متاحفها أو تدخل قلاعها القديمة، بين أن كل هذا الجمال موجود لدينا في البحرين، تاريخنا حافل وعامر، وتوثيقه مهمة صعبة ومعقدة، لكنها ممكنة، والتفوق فيها حينما يكون ذلك مصاحباً بالجمالية والرقي والإبداع في التقديم.
جلالة الملك حفظه الله قال قبل أيام خلال استقباله الشيخة مي، بأن العملية تتعدى مسألة الحفاظ على التراث والتاريخ البحريني، بل التحدي بإظهاره بصورة مشرفة. جلالته يتحدث عن بنية ثقافية مستدامة، تبرز المخزون الغني الذي تمتلكه البحرين من مكتسبات حضارية وإنسانية.
نعم الثقافة غذاء هام للروح، لا يدركه إلا الغائص في بحرها، المقدر لمكنوناتها، المستفيد من كنوزها في رسم وتشكيل حياته.
وحيثما تنشد الإبداع، لابد وأن يكون صاحبه صاحب قضية بل عاشق لها، وهذا ما بتنا نراه بوضوح في شخصية الشيخة مي آل خليفة وعملها.
شكراً لكل جهد وطني، هدفه في البداية والنهاية البحرين ولا شيء آخر.