إن الفن التشكيلي يعتبر ملتقى للثقافات العالمية في كل مكان وزمان ..هذا ما وجدته أثناء زيارتي الأخيرة لمتحف «ماررتشوس» في لاهاي بهولندا ،حينما شدت انتباهي لوحات عدة ليوهانس فيرمير، الذي عاش 43 سنة فقط، تاركاً 37 لوحة تعتبر من اللوحات المهمة لهولندا والعالم .. هذا الفنان الذي لم تخرج عبقريته للناس والنقاد إلا بعد وفاته .. ليفسر الجميع مدى اهتمامه بهموم الطبقات الوسطى والبسيطة وبتفاصيل لا يلتفت إليها أحد.. تهدف أولاً وأخيراً إلى ملامسة مجتمعه بكافة قضاياه وفئاته.
يحدث أحياناً أن ينجذب أحدنا إلى لوحة ما .. ويشعر بمتعة النظر إليها والتمعّن في تفاصيلها ..يتحسس لونها ويشم رائحة جمالها .. دون أن يعرف على وجه التحديد ما الذي يشدّه إليها أو يعجبه فيها.. هكذا كنت أمام لوحة " الفتاة ذات القرط اللؤلؤي " التي تنطق جميع تفاصيلها بالإبداع المبذول في إنجازها والرّقة التي تعامل بها الفنان وهو يرسم خيوطها الدقيقة .. وألوانها الناعمة والبديعة .. والإحساس الرائع بالمرأة.
لقد أحب هذا الفنان المرأة كثيراً ورسمها في كل لوحاته تقريباً .. لكنه لم يرسمها كموضوع مثير كأغلب الفنانين .. ولكن رسمها بصلابة وقوة وشجاعة لسيدات يمارسن بسكينة أعمالاً بسيطة داخل المنزل.. وكانه يقول من خلال لوحاته أن المرأة ليست مجرد صورة جميلة تشعل إبداع الفنان فيشتغل على إعادة صياغتها في لوحة تشكيلية ضمن رؤيته الفنية.. بقدر ماهي إنسانة تلعب دوراً مفصلياً في الحياة تستحق أن يبرز لها الفن هذا الدور الفاعل والمؤثر.
عرضت في هذا المتحف الرائع لوحات عديدة لأستاذ الضوء فيرمير ولكن تلك اللوحة الفنية الخلابة التي لقبت بموناليزا الشمال .. استوقفتني طويلاً وشدني فيها قرط اللؤلؤ.. لأعرف حينها بأن هذه اللوحة الفنية تحولت بعد ذلك إلى رواية ومن ثم إلى فيلم سينمائي .
أثناء هذا الوقوف الطويل والجميل والممتع أمام اللوحات الرّائعة تنامى إلى مسمعي صوت هامس يقول لي:
أين هو الفن التشكيلي والرسم في وقتنا الحاضر من كل هذه المعاني والقيم الإنسانية؟
هناك أعمال فنية ترجع إلى القرن السابع عشر تحمل رسائل إنسانية واجتماعية ووطنية بمشاهد مختلفة.. فالفن بجميع أصنافه وألوانه سواء كان ( فنون تشكيلة، مسرح، وموسيقى ) إنما يشكل قيماً جمالية وإنسانية ووطنية تستحق التقدير والنظر إلى مبدعيها بعين الإعجاب والاحترام .. وتشجيعهم على المزيد من التوهج والإبحار في عالم الإبداع، باعتبار أن الفن هو الصورة المضيئة للحركة الثقافية في أي مجتمع من المجتمعات.
لم يعد الفن التشكيلي مجرد لوحات جميلة ملهمة لإبداع الفنان كما نشاهدها في معارض الفنون التشكيلية عندنا .. ومشجعة لعشاق هذا الفن باقتنائها.. وإنما للفن التشكيلي رسالة وطنية وإنسانية يجب ألا تغيب عن مخيلة المبدع البحريني .. وهي أن استيطان لوحات الفنان التشكيلي في ذاكرة الناس ووجدان المجتمع وصفحات التاريخ إنما تعود بجانب تقنيتها الفنية العالية.. إلى قدرة هذا الفنان التشكيلي أو ذاك على التعبير عن قضايا مجتمعه بمختلف أنواعها بصورة تحمل من الدلالات والمعاني ما يجعل المتأمل للوحة الفنية أن يستشعر فيها قدرة الفن التشكيلي على استشفاف أعمق المعاني الإنسانية التي تعجز الكلمة أحياناً عن التعبير عنها .
إننا نحتاج إلى صحوة فنية من الإبداع تعيد إلى الفن التشكيلي دوره الريادي والخلاق في استلهام قضايا الإنسان ومجتمعه.. وإعادة صياغتها في لوحات تشكيلية تمنحنا متعة من الجمال .. وتعطينا فسحة من الخيال الذي يأخذنا إلى فهم مفاتيح الاستدلال في فهم هذا الإبداع الذي يعبر عن قضايا الإنسان.
فشكراً للفنان المبدع “فيرمير“ ولوحاته الخالدة.. ولكل فنان جاد علينا بمخيلته وبريشته.. ليسبر أعماق وجداننا بفهم واعٍ وإبداع لافت لإنسانيتنا ..شكراً لكل من تحدثت رسوماتهم عن معاني ودلالات ربما يستحيل التعبير عنها بصفحات من الكلام.
Sent from my iPhone