كان لي شرف المساهمة في تحكيم مشاركات القصة القصيرة التي كانت جزءاً من مسابقة فعالية مبادرة مركز سلوان للطب النفسي تحت شعار "ترى عادي". والمبادرة هدفت بشكل مباشر إلى تطبيع علاقة (المجتمع) مع من يعانون من الاضطرابات النفسية ويلجؤون لمراجعة العيادات النفسية وتعاطي أدوية خاصة بذلك. فالملاحظ أن المرضى النفسيين بدأ أغلبهم يتقبل فكرة مراجعة الطبيب النفسي (علناً) دون وسيط أو طلب مواعيد مغلقة، كما بدؤوا يتعايشون مع تعاطي الأدوية وتقبل تأثيرها. وصار أغلبهم متصالحين مع أنفسهم ومع الآخرين في هذا الظرف. غير أن غالبية أفراد المجتمع هي التي مازالت غير متفهمة لطبيعة المرض النفسي، ومازالت تنظر بريبة إلى المريض النفسي.
وتشير كل الإحصائيات المعتمدة إلى أن عوارض الاضطرابات النفسية في العالم في تزايد في عصرنا الحالي لأسباب كثيرة، تختلف من إقليم إلى آخر. ففي العالم المتقدم تشكل طبيعة الحياة العصرية وانعكاسها على حياة الفرد الاجتماعية ضغوطات شديدة تؤدي به إلى العزلة والقلق والتوتر الشديد. أما فيما يسمى بالعالم الثالث، فإن شيوع الفقر وتفجر النزاعات السياسية والعسكرية، والظلم الاجتماعي والاضطهاد وحالات التمييز المتعددة تؤدي إلى اضطرابات نفسية أكثر تعقيداً من تلك التي تنتشر في الدول المتقدمة. والدراسات أثبتت مفارقات صادمة في أن تقدم معالجات الأمراض الجسدية شهدت تطوراً وقفزات نوعية في مراحل تاريخية كثيرة، على عكس معالجات الأمراض النفسية. وقد يعود ذلك إلى صعوبة الأمراض النفسية وتعقد عمليات علاجها. أو قد يعود إلى قلة الاهتمام العالمي بتطوير دراساته وعلاجاته.
ولم تكن الأمراض النفسية عائقاً أمام البشر في إكمال مسيرة حياتهم الاجتماعية والعملية، بل وحتى الإبداعية. فكثير من مبدعي العالم كانوا يعانون اضطرابات نفسية بسيطة أو متوسطة بل وحتى حادة. وربما كان أشهرهم الرسام الهولندي فنسيت فان جوخ الذي تختلف المصادر في تصنيف وتعداد الحالات النفسية من اكتئاب وانفصام في الشخصية ووسوسة التي تصارعت بداخله وأنتجت هذا الكم الكبير والمبدع من اللوحات الفنية التي شكلت مدرسة في حد ذاتها. وكذلك كان فريدريك نيتشه يعاني من بعض الاضطرابات النفسية والشخصية التي أعاقت تواصله مع من حوله وانتهت به بالإصابة بالجنون في آخر أيام حياته، ويقال في بعض المصادر إن بعض كتب نيتشه متطرفة الأفكار كتبها تحت تأثير نوبات الجنون التي تدرجت في سيطرتها عليه.
المرض الجسدي والمرض النفسي هما تأثيران سلبيان يقع في أزمتها الإنسان. ولا فارق بين هذه الأمراض في إضرارها بالإنسان، وفي إمكانية تحديها وفهمها والتعايش معها. وليس من حرج في أي مرض يتعرض له الإنسان. وإحدى شجاعات البشرية وبطولاتها أنها ناضلت ضد الأمراض وهزمت الكثير من الأوبئة التي كانت تعد يوماً مرضَ موت.
مبادرة مركز سلوان للطب النفسي والقائمين عليه تعد مبادرة إنسانية واجتماعية تستحق التقدير من مؤسسة خاصة من مؤسسات المجتمع المدني التي تعي مسؤوليتها وتسهم في تعزيز خدماتها التثقيفية في المجتمع . ورسالة "ترى عادي" بسيطة التركيب عميقة الدلالة تحتاج إلى الاستمرار والامتداد أكثر. وتحتاج إلى شجاعة أصحاب القضية، الذين يعانون من الاضطرابات النفسية، في أن يثبتوا أنه فعلاً "ترى عادي" أن تكون مريضاً نفسياً، وتتعاطى أدوية، وفي الوقت نفسه تكون ناجحاً في حياتك الأسرية والعملية.