في خريف العام 2002 كانت السماء ملبدة بالغيوم -حسب تعبير السياسيين لا خبراء الأرصاد الجوية- وكنت في سجال مع أحد أقربائي الذي كان قادماً للتو من أمريكا بعد عشرات السنين قضاها هناك، كان النقاش يدور عن العقوبات والتهديدات الأمريكية على العراق، وكنت أرى في حينها أن ما يحدث هو مزيد من الإمعان في الإذلال وأن الأوضاع لن تتغير والنظام الحاكم في العراق باقٍ في مكانه لا يتزحزح، وفي المقابل العقوبات مستمرة، لكنه كان يرى العكس وأن التهديدات الأخيرة ستكون خاتمة التهديدات وأن النهاية ستكون بالغزو، عندما لم نصل إلى نتيجة من النقاش، سكت قليلاً ثم قال لي: "it's coming)" وكان يقصد الحرب قادمة.
انطلقت أمس المرحلة الأولى من العقوبات الأمريكية على إيران وهناك مرحلة أخرى قادمة في نوفمبر القادم، وبدت السماء اليوم ملبدة بالغيوم، وسيكون من المفيد معرفة مدى تلبدها، وهل ستمطر أم أنها سحابة صيف ستمر، ليس هذا صعباً إذا ما نظرنا إلى التهديدات والتحذيرات الأمريكية وماذا تريد أمريكا من إيران.. بداية وقبل فرض العقوبات أمريكا نصحت الدول التي ترغب في تجنب العقوبات على مؤسساتها المالية بتخفيض حجم مشترياتها النفطية من إيران، وفعلاً ألغيت عدة اتفاقيات لشركات بوينغ وتوتال وإيرباص، سكتت أكثر الدول وأعلنت تركيا رفضها للعقوبات وأنها ستستمر بشراء النفط من إيران، فكانت النتيجة انخفاضاً كبيراً في سعر صرف الليرة التركية، ومع أن السبب المعلن هو تعلق الأمر بقضية القس الأمريكي المحتجز في تركيا على خلفية الانقلاب الفاشل، إلا أن الواقع غير ذلك وانخفاض قيمة الليرة يتعلق بموقف تركيا من العقوبات على إيران، وقضية القس قديمة ليست بالجديدة، أما لو نظرنا إلى مطالب أمريكا من إيران فسنجد اثني عشر مطلباً جاءت على لسان وزير خارجية أمريكا مايك بومبيو، أولها أن تقدم إيران للوكالة الدولية للطاقة الذرية جرداً كاملاً بأنشطتها النووية والعسكرية، وأن تتوقف عنها وبشكل قاطع وقابل للإثبات إلى الأبد -حتى لو فعلت يمكن لأمريكا أن تقول لدينا تقارير استخبارية تؤكد أن إيران غير متعاونة وتخفي على الوكالة وهذا ما فعلته مع العراق-، ثانياً: توقف تخصيب اليورانيوم ويشمل هذا إغلاق مفاعلها للماء الثقيل، ثالثاً: تضمن للوكالة الدولية للطاقة الذرية حق الوصول غير المشروط لجميع المواقع في الدولة، -طلبت ذلك من العراق وفتحت الحكومة لها أبواب كل الأبنية في العراق، وأذكر في حينها كنت أستاذاً في الجامعة المستنصرية وكانت الجامعة تلزم كل كلية بمبيت أستاذين فيها يحملان معهما مفاتيح كل القاعات تحسباً لوصول لجان التفتيش في منتصف الليل ليفتح الأبواب المغلقة أمامهم، كي لا تقول اللجان الحكومة غير متعاونة، فكنا نتناوب على المبيت في الجامعة وذات ليلة وصلت اللجان ودخلوا إلى مختبر كلية العلوم ولم ينتظروا لحظات ليفتح لهم الأستاذ أبواب المختبر وحطموه ونقلوا كل الأجهزة والمواد التي يتعامل بها الطلبة-، رابعاً: توقف إنتاج الصواريخ الباليستية وتوقف تطوير الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، خامساً: إطلاق سراح مواطني الولايات المتحدة والدول الشريكة والحليفة المحتجزين أو المفقودين، -لا أدري من أين ستأتي بالمفقودين-، سادساً توقف دعم المجموعات الإرهابية في الشرق الأوسط -إذاً ما الذي ستفعله إيران في الحياة بعد ذلك!-، سابعاً: على إيران أن تحترم سيادة الحكومة العراقية، وأن تسمح بنزع سلاح الميليشيات وتسريحها -قول غيرها يا سيد بومبيو كلها إلا هذي-، ثامناً: توقف دعمها للحوثيين، وتعمل لصالح تسوية سلمية، تاسعاً: تسحب كل القوات التي تخضع لقيادتها من سوريا، عاشراً: توقف دعم طالبان وتكف عن إيواء قادة القاعدة، حادي عشر: توقف دعم فيلق القدس للإرهابيين والميليشيات الشريكة -وماذا يعمل فيلق القدس بعدها؟!-، ثاني عشر: توقف سلوكها المهدد لجيرانها -في هذه نرجو المعذرة يا سيد بومبيو، فأنت هنا كمن يطلب من شخص طبيعي إجراء عملية تحول جنسي-.
أغلب هذه المطالب أو غيرها من على شاكلتها طلبتها أمريكا من العراق قبل 16 سنة، وقدمها العراق لها متنازلاً عن السيادة، ومع ذلك خسفت به الأرض وما احتاجت إلا لقول جملة واحدة "تقاريرنا تقول إن العراق غير ملتزم ويشكل خطراً على الأمن والسلم العالمي".
أما الرئيس الإيراني روحاني فيقول: "إذا أرادوا هزيمة الأمة الإيرانية عليهم أولاً أن يقضوا على الأمل بالمستقبل وبالثقة لدى الشعب الإيراني.. إذا تمسكنا بالأمل والثقة لا بد أن تفشل أمريكا"، أما إذا سألت الشعب الإيراني عن رأيه في كلام رئيسه فسيقول لك: وما معنى الأمل والثقة، كي أجيبك؟
كلام روحاني سمعته في العراق قبل 16 سنة لكن بعبارات مختلفة مثل الضوء في نهاية النفق، وعزيمة الأخيار، لذلك يبدو "it's coming".