نتفق غالبيتنا بأن التقرير السنوي الذي يصدره ديوان الرقابة المالية والإدارية «تقرير مهني»، يمكن دائماً الانطلاق منه في عمليات التصحيح والإصلاح ومحاربة الأخطاء.

ونتفق غالبيتنا بأن التقارير التي صدرت ووصل عددها إلى 15 تقريراً، بإضافة الأخير الذي صدر قبل أسبوعين، بأنها لم تتلق معالجة صحيحة ولا تعاملاً مهنياً رقابياً بالمستوى المأمول، وهذا كان أحد أهم الأسباب في تضخم هذا الملف سنوياً، وفي وجود هدر مالي مستمر بل ومتكرر في بعض الجهات، بالإضافة للتجاوزات الإدارية المتزايدة، والتي لو تحدثنا عنها فإنك لن تنتهي بسرعة.

التقرير وصل ليد النواب، ونحن الآن في ترقب لردة فعلهم، ماذا سيفعلون بشكل «مغاير» عن سابقيهم، وهل سيكونون على قدر استخدام أدواتهم الدستورية في شأن السؤال والتحقيق وحتى وصولاً لطرح الثقة، أم سيكتفون بالتنديد والاستنكار والتصريح في وسائل الإعلام، وهي أمور اعتدنا عليها، وأصابتنا بخيبة أمل، لأنه لا يعقبها أي إجراء رادع وحاسم.

مقتطفات نشرتها الصحافة بالأمس، نشرت فيها نماذج مختلفة لتجاوزات وأخطاء حصلت في مختلف قطاعات الدولة، بعضها يكاد يكون مشابهاً لأخطاء حصلت سابقاً، مرتبطة بسوء الإدارة المالية، وكذلك بسوء الإدارة البشرية، لكن ما يستوجب الوقوف عنده هي تلك الحالات التي تتعدى مسألة إهدار المال أو سوء معاملة البشر، بل تصل لمرحلة متقدمة ترتبط بالاستهتار أو التهاون بشأن حياة البشر.

هنا سأترك الحديث عن غالبية الجزئيات والقطاعات، وسأركز على الملاحظات التي وردت بشأن وزارة الصحة، خاصة تلك التي تسببت بخسائر في الأرواح نتيجة إهمال بغض النظر أكان غير متعمد أو خلافه، أو تلك التي عانى منها المرضى بدل أن يحظون بالمعاملة الإنسانية الصحيحة.

وقبل الخوض في التفاصيل، مهم هنا أن نعلن حسن نوايانا، عبر القول بأن لدينا الثقة في الوزارة من خلال أطقمها الإدارية على أداء رسالتهم الإنسانية قدر المستطاع، لكن الإشارة هنا تتمثل بأن الملاحظات التي سجلها التقرير تضمنت أرقاماً كبيرة بالنسبة لنا كبحرينيين نعيش على أرض مساحتها صغيرة.

صحيفتنا «الوطن» نشرت فيما يتعلق بالملاحظات على وزارة الصحة عناوين أوردها نصاً كالآتي:

* وزارة الصحة توقفت عن متابعة 20 حالة وفاة في مستشفى السلمانية دون مبررات.

* جرعة كيماوية بعشرة أضعاف المعتادة تقتل مريضاً في مستشفى السلمانية.. ووزارة الصحة توقفت عن متابعة الحالة.

* طبيب يتسبب بنزيف حاد بالرئة لمريض أثناء عملية جراحية.. ولا متابعة للحالة.

* وفاة مريضة مصابة بمتلازمة داون لم يتم تركيب أنبوب تنفس لها لمدة 35 يوماً.

* 16 خطأ طبياً و9 وفيات لم تحلها وزارة الصحة لـ»المهن الطبية».

* ممرضة تعطي طفلاً «غسولاً للفم» كشراب خطأ.. ووزارة الصحة لم تحلها لـ»المهن الطبية».

* طبيب يتسبب بوفاة مريض بعد تثبيته أنبوب الأوكسجين بالمريء بدلاً من القصبة الهوائية.. ولا إحالة للجهة المختصة.

* طبيب يتسبب بوفاة مريض بالفشل الكلوي بعد إعطائه دواءً مضاداً للتخثر ما أدى لإصابته بنزيف في الدماغ .. ولا تحقيق.

بالنظر لهذه العناوين أعلاه، يمكن تحديد 4 حالات وفيات نتجت عن أخطاء طبية، أو إهمال، ولم تتم إحالتها للمهن الطبية، وبعضها لم تشهد تحقيقاً فيها، بالإضافة لوقف متابعة 20 حالة وفاة دون مبرر، و9 وفيات لم تحل للمهن الطبية.

حينما أقرأ مثل هذه الأرقام كمواطن، أصاب بحالة استياء بالضرورة، إذ هي أرقام لا تعبر عن أموال هدرت بسبب سوء إدارة، رغم أن هدر المال أيضاً يغضب، لكن الشاهد هنا بأننا نتحدث عن أرقام تمثل بشراً، تمثل أرواحاً، يفترض أننا مع الطب المتقدم لدينا يفترض، أن نمتلك أفضل السجلات في معالجة الأمراض والحفاظ على الأرواح، وفوق ذلك متابعة كافة الحالات، وعدم ترك قضايا شهدت أخطاءً طبية أو إهمالاً مفتوحة دون تحقيق، وكأن الموضوع يغلق بوفاة الشخص، دون أن يؤخذ له ولعائلته الحق، ودون محاسبة للمتسبب.

ما نعرفه بأن الطب هي إحدى المهن القليلة التي لا يمكن القبول بحصول الأخطاء فيها، ولا يقبل معها أية تبريرات، لأنك تتحدث عن أرواح بشر. بالتالي حينما نرى في تقرير ديوان الرقابة هذه الأرقام والملاحظات بشأنها بأنها لم تحال للتحقيق أو الجهات المختصة لأخذ إجراءات أو إغلاق ملفات لحالات وفيات دون حسم، فإنها هذا أمر يدفع أولاً للاستغراب، ومن ثم للاستياء، ويكون بالتالي معرفة الرد المفصل والوافي للوزارة على كل حالة ذكرت أمراً حتمياً ولازماً، وغير مقبول التنازل عنه.

الاستهتار الذي يودي بحياة البشر، أخطر من الاستهتار الذي يبعثر أموال البشر. فبلا روح وحياة، لا قيمة للمال مهما كان حجمه.