كل تلك القصص لم نكن نسمع بها في السنوات السابقة. أو هكذا نظن. حوادث الضرب والطعن والشتائم وقصص الانتحار الكثيرة. والشكاوى في مراكز الشرطة والقضاء؟ يبدو أن مجتمعاتنا أصبحت أكثر عنفاً. نحن نظن، كذلك، أن بلداً صغيراً مثل البحرين. ومجتمعاً لا يعاني من أزمات كثيرة مثل الشعب البحريني، يتوقع منه ألا تبرز فيه مثل تلك المشكلات. ولكن.. ماذا حدث؟ لماذا صار العنف ظاهرة مقلقة لا يمر يوم إلا بحادث أو أكثر من حوادث العنف.
ظاهرة التنمر في انتشار واسع بين المراهقين في الأحياء والمدارس. ويمارس فيها مختلف أنواع العنف، اللفظي والجسدي بصورة غير معهودة بين الأجيال السابقة. وحوادث الطعن التي انتشرت بسبب خلافات بسيطة بعضها لا يتجاوز الخلاف على موقف سيارة أو نقاش عابر صارت تتكرر بوتيرة مطردة. والعنف الأسري ضد الزوجة أو الأبناء فهو أخطر بكثير مما نظن. أما منصات التواصل الاجتماعي فصارت أكبر ساحة لممارسة العنف الممنهج الأقرب إلى ممارسة العصابات. هل كان الوضع هكذا فعلاً، ولكننا بسبب الطفرة الإعلامية صرنا أكثر دراية به؟ أم إن متغيرات جديدة طرأت على المجتمع فاكتسب خصائص لم تكن من تركيبته الشخصية؟
الدراسات النفسية والاجتماعية تقدم أسباباً كثيرة لتفشي مظاهر العنف والتنمر على المستوى الفردي في غالب الأحيان. مثل التنشئة القاسية، وعدم تعلم الأسلوب السوي في التعبير عن الذات. انغلاق الأطفال على الألعاب وأفلام العنف دون رقابة. الشعور بالنقص أو العظمة الزائدة. كبت الحريات والاضطهاد وغيرها من الأسباب... لكنها لا تقدم تفسيراً واضحاً للتغير الاجتماعي ولحالات الانقلاب في القيم التي قد تعتري المجتمعات. نحن نمر، حقاً، بموجات متتالية من تغير المجتمع يبدو وكأنه يستبدل جلده في كل مرة.
إننا حين نغير مواقع سكننا واتجاهات دراستنا وعملنا وحين نستبدل أصدقاءنا وأنماط لبسنا وطعامنا، فإننا نغير سلوكنا ونمط تفكيرنا كذلك. وبما أننا لسنا المصدر الأصيل لكل تلك التغيرات التي نتبناها، من أكل وملبس وعلم وعمل، فيبدو من الطبيعي أن نفقد اتزاننا لبعض الوقت الذي قد يطول أو يقصر. إننا مجتمعات تعاني من الدوار ومن عدم ثبات الأقدام على الأرض التي نقف عليها. وهذا أحد أسباب اختلال علاقتنا بالآخرين.
هذا الاضطراب يتجلى كثيراً في ضبابية تفسيرنا لمعاني أشياء كانت، في السابق لا تحتاج تعريفاً. مثل الأسرة، والمدرسة، والأصدقاء، والعمل، والوطن، والأخلاق، والقيم. هذه «الأشياء»، هي أخطر ما يتم إعادة ضبط مفاهيمه وجدواه ومدة اشتغاله. فالأسرة صارت محدودة بمن يمنحونك السلام، والمدرسة ارتبطت فقط بخدماتها والأصدقاء بجدوى التعامل معهم، والوطن بالمكان الذي يمنحك الاستقرار والعمل والأمل. أما الأخلاق والقيم فابتعدت عن مثاليتها وانجرفت نحو البراغماتية.
حين نستعيد توازننا قليلاً ونفهم طبيعة التغيرات والتحولات التي آل إليها مجتمعنا، سوف نتمكن من فهم السلوكيات الطارئة عليها والظواهر الجديدة التي لم نعتدها سابقاً. وحتى نصل إلى مرحلة التوازن فإننا بحاجة إلى تأمل ما يحدث حولنا بهدوء ودون تشنج ودون التسرع في إلقاء اللوم على الآخرين أو حرف أزماتنا في غير اتجاهها. علينا أن ندرك أننا لسنا ملائكة، وأن مجتمعاتنا هي مجتمعات بشرية يعتريها كل ما يعتري البشرية من الأمراض والأوبئة. وليس الحل في التباكي على نوستالجيا أقرب إلى اليوتوبيا التي لا يعيشها أي مجتمع طبيعي. الحل أن نفهم أولاً... ثم نعي... ثم نكون واقعيين.
{{ article.visit_count }}
ظاهرة التنمر في انتشار واسع بين المراهقين في الأحياء والمدارس. ويمارس فيها مختلف أنواع العنف، اللفظي والجسدي بصورة غير معهودة بين الأجيال السابقة. وحوادث الطعن التي انتشرت بسبب خلافات بسيطة بعضها لا يتجاوز الخلاف على موقف سيارة أو نقاش عابر صارت تتكرر بوتيرة مطردة. والعنف الأسري ضد الزوجة أو الأبناء فهو أخطر بكثير مما نظن. أما منصات التواصل الاجتماعي فصارت أكبر ساحة لممارسة العنف الممنهج الأقرب إلى ممارسة العصابات. هل كان الوضع هكذا فعلاً، ولكننا بسبب الطفرة الإعلامية صرنا أكثر دراية به؟ أم إن متغيرات جديدة طرأت على المجتمع فاكتسب خصائص لم تكن من تركيبته الشخصية؟
الدراسات النفسية والاجتماعية تقدم أسباباً كثيرة لتفشي مظاهر العنف والتنمر على المستوى الفردي في غالب الأحيان. مثل التنشئة القاسية، وعدم تعلم الأسلوب السوي في التعبير عن الذات. انغلاق الأطفال على الألعاب وأفلام العنف دون رقابة. الشعور بالنقص أو العظمة الزائدة. كبت الحريات والاضطهاد وغيرها من الأسباب... لكنها لا تقدم تفسيراً واضحاً للتغير الاجتماعي ولحالات الانقلاب في القيم التي قد تعتري المجتمعات. نحن نمر، حقاً، بموجات متتالية من تغير المجتمع يبدو وكأنه يستبدل جلده في كل مرة.
إننا حين نغير مواقع سكننا واتجاهات دراستنا وعملنا وحين نستبدل أصدقاءنا وأنماط لبسنا وطعامنا، فإننا نغير سلوكنا ونمط تفكيرنا كذلك. وبما أننا لسنا المصدر الأصيل لكل تلك التغيرات التي نتبناها، من أكل وملبس وعلم وعمل، فيبدو من الطبيعي أن نفقد اتزاننا لبعض الوقت الذي قد يطول أو يقصر. إننا مجتمعات تعاني من الدوار ومن عدم ثبات الأقدام على الأرض التي نقف عليها. وهذا أحد أسباب اختلال علاقتنا بالآخرين.
هذا الاضطراب يتجلى كثيراً في ضبابية تفسيرنا لمعاني أشياء كانت، في السابق لا تحتاج تعريفاً. مثل الأسرة، والمدرسة، والأصدقاء، والعمل، والوطن، والأخلاق، والقيم. هذه «الأشياء»، هي أخطر ما يتم إعادة ضبط مفاهيمه وجدواه ومدة اشتغاله. فالأسرة صارت محدودة بمن يمنحونك السلام، والمدرسة ارتبطت فقط بخدماتها والأصدقاء بجدوى التعامل معهم، والوطن بالمكان الذي يمنحك الاستقرار والعمل والأمل. أما الأخلاق والقيم فابتعدت عن مثاليتها وانجرفت نحو البراغماتية.
حين نستعيد توازننا قليلاً ونفهم طبيعة التغيرات والتحولات التي آل إليها مجتمعنا، سوف نتمكن من فهم السلوكيات الطارئة عليها والظواهر الجديدة التي لم نعتدها سابقاً. وحتى نصل إلى مرحلة التوازن فإننا بحاجة إلى تأمل ما يحدث حولنا بهدوء ودون تشنج ودون التسرع في إلقاء اللوم على الآخرين أو حرف أزماتنا في غير اتجاهها. علينا أن ندرك أننا لسنا ملائكة، وأن مجتمعاتنا هي مجتمعات بشرية يعتريها كل ما يعتري البشرية من الأمراض والأوبئة. وليس الحل في التباكي على نوستالجيا أقرب إلى اليوتوبيا التي لا يعيشها أي مجتمع طبيعي. الحل أن نفهم أولاً... ثم نعي... ثم نكون واقعيين.