ظلت العلاقة بين السياسة والثقافة حتى وقت قريب تتبدل مع اختلاف الفكر الإنساني والحضارات الإنسانية عبر هذا التاريخ الطويل، وجاء الكثير من التفسيرات حول علاقتهما المتقلبة والمتغيرة، فسّرها الناقد الامريكي-البريطاني توماس ستيرنز إليو «أن الثقافة أصبحت بوجه عام قسماً من السياسة، عن حقيقة أن السياسة كانت في عهود أخرى منشطاً يمارس داخل ثقافة ما»، في حين يرى الفيلسوف البريطاني تيري إيجلتون في كتابه «فكرة الثقافة» أنه يجب إعلاء الثقافة على السياسة، وحسب قوله «أن نعلي الثقافة على السياسة.. أن نكون بشراً أولاً، ومواطنين ثانياً.. يعنى أن على السياسة أن تتحرك ضمن بُعْدٍ أخلاقي». فعندما ينشغل الزعيم المصري جمال عبدالناصر بالفيلسوف والمسرحي والروائي «جان بول سارتر»، وعندما يصاحب الروائي والصحفي والناشر الكولمبي «غابرييل غارسيا ماركيز» الرؤساء فهذا يدل على أن الثقافة إحدى الأدوات السياسة الذكية الناعمة.
يأتي اليوم مصطلح الدبلوماسية الثقافية باسم رنّان وجذّاب يتمّ تداوله بشكل واسع في منطقتنا العربية، فهل هو جاء ليشكّل مجتمعنا العربي بصورة جديدة لدى الرأي العام الغربي الذي طالما ربط اسمنا بالنفط والثراء من جهة، وبالتشدد الديني المشوّه من جهة أخرى؟ تعتبر الدبلوماسية الثقافية اللبنة الأساس للتواصل بين الحضارات والشعوب، والثقافة تحديداً، لها دور فعّال محوري أساسي في بناء جسور التلاقي والحوار بين تلك الشعوب وبعضها، بل وبين الدول وبعضها البعض، ومع حلول الألفية الثالثة وظهور العولمة بالتحديد انتقل العالم العربي بطفرة ذكية في استخدام عائدات النفط لدعم الثقافة ونشرها من أجل السلام والاستقرار، في حين أن أفريقيا بغناها وشهرتها بالذهب والماس إلا أن صراعاتها الداخلية وحروبها الأهلية وانقلاباتها جعلت منها بلداً غير مستقر ليس فقط من الناحية السياسية والاقتصادية بل حتى من الناحية الاجتماعية.
إن الدبلوماسية الثقافية ليست بممارسات جديدة، بل كانت موجودة منذ القدم حين مارسها التجار والرحّالة في رحلاتهم الاستكشافية وحتى طلاب العلم في سفرهم من بلد لآخر من أجل إرضاء شغفهم المعرفي، فهم كانوا يمارسون النقل المعرفي والتبادل الفكري الثقافي بين الدول وليس تلقين العلم من الجامعات إلى الأفراد، فهم حقاً كانوا يمارسون إحدى وسائل نشر الدبلوماسية الثقافية.
والجدير بالذكر أن الدبلوماسية الثقافية، هي عملية يتم من خلالها تبادل التقاليد والقيم والأهداف والأفكار بهدف تعزيز سبل التفاهم والتعاون والتقارب حيث تزداد هذه الحاجة للدول عندما تكثر الحملات العدائية ضدها فتنتشر المغالطات والصور المشوهة فتحتاج إلى وسيلة حوار ثقافي لنشر حقيقتها عند الشعوب الأخرى، فتأتي أشكال المشاركات الثقافية من أجل تنشيط الدبلوماسية الثقافية على هيئة معارض فنية أو مهرجانات موسيقية أو حتى ندوات ثقافية تجول العالم من أجل تحقيق أهداف ثقافية سياسية تخدم أهداف المنطقة الدبلوماسية، ولكن هل هذه المعارض والمهرجانات والندوات تكفي؟ وما هي السبل المثلى للوصول والاقتراب من عمق المجتمعات المستهدفة بتلك القوة الناعمة؟ تعتبر فرنسا الدولة الرائدة في موضوع الدبلوماسية الثقافية ثم تأتي بعدها ألمانيا ثم المملكة المتحدة، وقد رأت فرنسا أن وجود المدارس الفرنسية خارج فرنسا أمر ضروري لبدء الدبلوماسية الثقافية الفرنسية، فحرصت حتى اليوم على إنشاء 500 مدرسة في دول مختلفة لأنها ترى أن التعليم ونشر الثقافة واللغة الفرنسية أمر ضروري، فكيف لرابع لغة حيّة وهي اللغة العربية يكون انتشارها محدوداً والتي يعتبر تعليمها وتدريسها نقطة البداية لنشر ثقافتنا الدبلوماسية العربية، فوجود مدارسنا العربية في الدول الغربية وتدريس لغتنا للجاليات الأجنبية أمر ضروري ومهم، فالدبلوماسية الثقافية ليست فقط عمل دولة أو وزارات أو مؤسسات وهيئات حكومية أو خاصة، إنما هي تكاتف جميع الأفراد وعمل نسيج مجتمعي كامل بِما فيه من أدباء وشعراء وفنانين ومسرحيين ورجال أعمال وأصحاب دور النشر والمنظمات والجمعيات المجتمعية والأهلية، وكم هو جميل أن تصبح في الدول الأوروبية «الدبلوماسية الثقافية» مادة أكاديمية أساسية تدرس في الجامعات منذ عقدين كجامعة برلين بألمانيا.
إن التمايز الثقافي لا يؤدي إلى حدوث الصراعات، والمنهج السلمي للتعايش يتحقق بالتفاهم والحوار، وهذا كله لن يحدث إلا عند ممارسة وتعزيز أهمية ودور الدبلوماسية الثقافية، ووضع خطط استراتيجية ومناهج توضح فيها الأهداف المرجوة من الهيئات الثقافية والمؤسسات والشعوب، بما يتفق مع الأهداف السياسية العامة للدولة، وإنشاء مراكز تُمارس الدبلوماسية العامة وتهدف إلى تفعيل الدبلوماسية الثقافية، وتساهم في تفعيل السياسات الخارجية عن طريق التعاون مع الهيئات والجمعيات والمنظمات التابعة للدول الصديقة من أجل تحقيق التعاون المشترك في نشر ثقافات الشعوب وإبراز الصور الحقيقية للدول.
إلى جانب أنه من المهم أن تركّز الدول العربية على تفعيل ملحقياتها الثقافية في الخارج والالتفات لمهامها الثقافية وليست الطلابية فقط، فدورها اليوم كبير لا يقتصر على شؤون الطلبة وأمورهم الأكاديمية ومكافآتهم المالية، بل لها دور واسع وشامل يحمل معاني العلاقات المشتركة بين البلدين في أوجه ثقافية واسعة.
نعم حان الوقت أن تدعم الجهود الدبلوماسية الثقافية من أجل تحقيق أهدافها البعيدة المدى والتي تعد أمراً مهماً لا يقل أهمية عن أهداف الدولة الأساسية.
{{ article.visit_count }}
يأتي اليوم مصطلح الدبلوماسية الثقافية باسم رنّان وجذّاب يتمّ تداوله بشكل واسع في منطقتنا العربية، فهل هو جاء ليشكّل مجتمعنا العربي بصورة جديدة لدى الرأي العام الغربي الذي طالما ربط اسمنا بالنفط والثراء من جهة، وبالتشدد الديني المشوّه من جهة أخرى؟ تعتبر الدبلوماسية الثقافية اللبنة الأساس للتواصل بين الحضارات والشعوب، والثقافة تحديداً، لها دور فعّال محوري أساسي في بناء جسور التلاقي والحوار بين تلك الشعوب وبعضها، بل وبين الدول وبعضها البعض، ومع حلول الألفية الثالثة وظهور العولمة بالتحديد انتقل العالم العربي بطفرة ذكية في استخدام عائدات النفط لدعم الثقافة ونشرها من أجل السلام والاستقرار، في حين أن أفريقيا بغناها وشهرتها بالذهب والماس إلا أن صراعاتها الداخلية وحروبها الأهلية وانقلاباتها جعلت منها بلداً غير مستقر ليس فقط من الناحية السياسية والاقتصادية بل حتى من الناحية الاجتماعية.
إن الدبلوماسية الثقافية ليست بممارسات جديدة، بل كانت موجودة منذ القدم حين مارسها التجار والرحّالة في رحلاتهم الاستكشافية وحتى طلاب العلم في سفرهم من بلد لآخر من أجل إرضاء شغفهم المعرفي، فهم كانوا يمارسون النقل المعرفي والتبادل الفكري الثقافي بين الدول وليس تلقين العلم من الجامعات إلى الأفراد، فهم حقاً كانوا يمارسون إحدى وسائل نشر الدبلوماسية الثقافية.
والجدير بالذكر أن الدبلوماسية الثقافية، هي عملية يتم من خلالها تبادل التقاليد والقيم والأهداف والأفكار بهدف تعزيز سبل التفاهم والتعاون والتقارب حيث تزداد هذه الحاجة للدول عندما تكثر الحملات العدائية ضدها فتنتشر المغالطات والصور المشوهة فتحتاج إلى وسيلة حوار ثقافي لنشر حقيقتها عند الشعوب الأخرى، فتأتي أشكال المشاركات الثقافية من أجل تنشيط الدبلوماسية الثقافية على هيئة معارض فنية أو مهرجانات موسيقية أو حتى ندوات ثقافية تجول العالم من أجل تحقيق أهداف ثقافية سياسية تخدم أهداف المنطقة الدبلوماسية، ولكن هل هذه المعارض والمهرجانات والندوات تكفي؟ وما هي السبل المثلى للوصول والاقتراب من عمق المجتمعات المستهدفة بتلك القوة الناعمة؟ تعتبر فرنسا الدولة الرائدة في موضوع الدبلوماسية الثقافية ثم تأتي بعدها ألمانيا ثم المملكة المتحدة، وقد رأت فرنسا أن وجود المدارس الفرنسية خارج فرنسا أمر ضروري لبدء الدبلوماسية الثقافية الفرنسية، فحرصت حتى اليوم على إنشاء 500 مدرسة في دول مختلفة لأنها ترى أن التعليم ونشر الثقافة واللغة الفرنسية أمر ضروري، فكيف لرابع لغة حيّة وهي اللغة العربية يكون انتشارها محدوداً والتي يعتبر تعليمها وتدريسها نقطة البداية لنشر ثقافتنا الدبلوماسية العربية، فوجود مدارسنا العربية في الدول الغربية وتدريس لغتنا للجاليات الأجنبية أمر ضروري ومهم، فالدبلوماسية الثقافية ليست فقط عمل دولة أو وزارات أو مؤسسات وهيئات حكومية أو خاصة، إنما هي تكاتف جميع الأفراد وعمل نسيج مجتمعي كامل بِما فيه من أدباء وشعراء وفنانين ومسرحيين ورجال أعمال وأصحاب دور النشر والمنظمات والجمعيات المجتمعية والأهلية، وكم هو جميل أن تصبح في الدول الأوروبية «الدبلوماسية الثقافية» مادة أكاديمية أساسية تدرس في الجامعات منذ عقدين كجامعة برلين بألمانيا.
إن التمايز الثقافي لا يؤدي إلى حدوث الصراعات، والمنهج السلمي للتعايش يتحقق بالتفاهم والحوار، وهذا كله لن يحدث إلا عند ممارسة وتعزيز أهمية ودور الدبلوماسية الثقافية، ووضع خطط استراتيجية ومناهج توضح فيها الأهداف المرجوة من الهيئات الثقافية والمؤسسات والشعوب، بما يتفق مع الأهداف السياسية العامة للدولة، وإنشاء مراكز تُمارس الدبلوماسية العامة وتهدف إلى تفعيل الدبلوماسية الثقافية، وتساهم في تفعيل السياسات الخارجية عن طريق التعاون مع الهيئات والجمعيات والمنظمات التابعة للدول الصديقة من أجل تحقيق التعاون المشترك في نشر ثقافات الشعوب وإبراز الصور الحقيقية للدول.
إلى جانب أنه من المهم أن تركّز الدول العربية على تفعيل ملحقياتها الثقافية في الخارج والالتفات لمهامها الثقافية وليست الطلابية فقط، فدورها اليوم كبير لا يقتصر على شؤون الطلبة وأمورهم الأكاديمية ومكافآتهم المالية، بل لها دور واسع وشامل يحمل معاني العلاقات المشتركة بين البلدين في أوجه ثقافية واسعة.
نعم حان الوقت أن تدعم الجهود الدبلوماسية الثقافية من أجل تحقيق أهدافها البعيدة المدى والتي تعد أمراً مهماً لا يقل أهمية عن أهداف الدولة الأساسية.