للخط العربي سحره وجماله حينما نشاهده في أي مكان، يثير دهشتنا ويستوقف أعيننا، وعندما نلقي نظرة على رسائل الملوك والخلفاء العرب التي يتبادلونها نرى مفاتن هذا الفن التشكيلي الأصيل وجمال تكوينه وإيحاءاته ودلالته.
بدأت رحلة الخط العربي قبل الأبجدية التي عثر عليها في اوغاريت «رأس شمرا»، وتم الحصول على كتابات عربية مدونة بخط المسند في أماكن عديدة من الجزيرة العربية، ويعتبر خط أهل اليمن الذي يسمى خط حِمْيَر من أوائل الخطوط العربية، ثم جاء خط المسند حتى بعد ظهور الإسلام. والجميل أنه في هذه الفترة كان الخط العربي يسمى نسبة إلى القبائل العربية كالخط الآرمي نسبة إلى قبيلة إرم والخط الصفائي نسبة إلى أرض الصفاة والخط الثمودي نسبة إلى قبيلة ثمود والخط اللحياني نسبة الى قبيلة لحيان وغيره، وبغض النظر عن رأس الخط العربي الذي اختلف عليه المؤرخون كونه آرمي الأصل أو مِسْنَدي القاعدة إلا أنه مع بزوغ الإسلام ونزول سورة العلق ظهر خط أهل مكة وبدأت الرحلة الجمالية للخط العربي.
الخط العربي فن زخرفي ورمز للهُوية العربية والحضارة ويوجد منه أنواع كثيرة، ولكن ما بقي منها حتى اليوم هي الخطوط الستة المستخدمة كخط الثلث الكلاسيكي الجميل، وخط النسخ الذي انتشر في العصور الإسلامية الوسطى، والكوفي الذي انتشر في عهد الدولة الفاطمية في مصر وفِي عهد السلاجقة في إيران، وخط الرقعة وهو من أنواع الخطوط السهلة، والديواني الذي استخدم لكتابة الدواوين، ثم الخط الفارسي الذي يعتبر من أجمل الخطوط.
الجدير بالذكر أن الخط العربي مر على عصور مختلفة كالعصر الأموي والعصر العباسي ولمعت أسماء خطاطين من أبرزهم ياقوت المستعصم، وخالد بن أبي الهياج، وقطبة المحرر، والضحّاك بن عجلان، وإسحاق بن حماد، وإبراهيم الشجري، وعلي بن هلال البغدادي.
ثم جاء العصر العثماني لتحظى اللغة العربية باهتمام كبير، فاهتم بها السلاطين العثمانيون كثيراً وكانت هي اللغة الرسمية العثمانية التي يكتب بها، وعلى الرغم من استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني سنة 1347 للهجرة إلا أن الخط العربي لايزال في تركيا له منزلته ومكانته ويتخرج من بين هؤلاء الأتراك خطاطون مبدعون.
عاش الخط العربي بين الأتراك أكثر من خمسة قرون، ويعتبرون عباقرة الخط العربي وفِي عهد العثمانيين بلغ الخط العربي ذروة الفن والجمال والكمال فلمعت أسماء عديدة منها مصطفى راقد، وحمدالله الأماسي، وأحمد قره حضاري، وماجد الزهدي، وحامد الآمدي والحافظ عثمان الذي كتب المصحف الشريف مرات عديدة، وله رواية مشهورة روتها عنه كتب التاريخ والفن وهي أنه لو تعرض عليه الخطوط المختلفة والتي يكتبها طوال الأسبوع سيعرف بحاسته الفنية خطه الذي كتبه يوم السبت لأنها أقل مرونة عن خطوط باقي أيّام الأسبوع بسبب توقفه عن ممارسة الخط يوم الجمعة، وهو إيحاء مهم لكل خطاط بأن عليه أن يمارس فن الخط باستمرار دون توقف لأنه فن يحتاج إلى الممارسة!
المتمرسون في الخط العربي يعملون دائماً في صمت، بعيداً عن الأضواء والشهرة، وحين يرسم الخط فإنه يعلن الحب على الحرف فيحّول الأبجدية إلى فن. والجميل أن الخطاط المتمرس يجعل من الحروف العربية لوحة فنية من خلال رشاقة خطه وتناسق سطوره بدءاً من القصبة التي استخدمها قديماً إلى الريشة فالقلم فهو فنان الحرف، وكما قال ابن المقفع: «الخط للأمير جمال، وللغني كمال، وللفقير مال».
مع بداية كل يوم حينما أضغط بأصابعي على مفاتيح الحروف بلوحة الطباعة بجهاز الحاسوب الخاص بي أتذكر طفولتي وطفولة أبنائي اليوم، فأنا من جيل درس الخط العربي بالمدرسة وكتب في كراسة تمارين الخط العربي، وأؤمن بأن كل إنسان له نصيب من خطه، وهناك علم يفسر الخط ومدى ارتباطه بالشخصية. بالمقابل أنا لست ضد التطور والتكنولوجيا والتحسر على الماضي، وعلى يقين بأن كل إنسان يعيش عصره ولكن أين أبناؤنا من هذا الإرث؟ ومن بين كم طفلٍ نرى طفلاً ذا خط جميل؟
إن أجهزة الحواسيب ألغت الكتابة اليدوية بأدواتها البسيطة وهي الورقة والقلم والتي تعتبر نباتات حية تشعر بعروق أصابعنا ليختلط حينها حبر القلم بإيقاع الشعور فيأتي الكلام مرسوماً، في وقت لا يدرك هذا الشعور ولا هذا الكلام جيل الناشئة الجديد!
نعم نحن في عصر التقنيات الحديثة ولكن من الواجب علينا الحفاظ على إرثنا التاريخي الفني في الخط العربي، فكيف لنا أن نوظف تقنيات الحاسب الآلي لتعليم فنون الخط العربي، وكيف لنا أن نلفت انتباه أبنائنا لهذا الجمال الذي وصل إلى الذوق العالمي؟
إن فن الخط العربي فن يجب أن يمارسه ويتعلمه أبناؤنا في المدارس بطريقة مكثفة منتظمة، وأن يدرج كمادة تسمى «فن الخط العربي» وتكون مشتركة، أي تدرس في حصة الفن وحصة اللغة العربية لأنها مادة تخصصية تشمل الجانب الذهني والبصري والتطبيقي الفني، إلى جانب أن يتعلّمها الطالب من مرحلة الصفوف الأولى وحتى تخرجه من الثانوية فربما يتخرج يوماً ما من أحد الجامعات العالمية رساماً برتبة خطاط، ففن الخط العربي منذ القدم وحتى اليوم يقدّر من دول الغرب أكثر من دول العرب.. ويختصر القول ما قاله زعيم الرسم الحديث بيكاسو: «إن أقصى ما وصلت إليه في فن الرسم وجدت الخط العربي قد سبقني إليه منذ أمد بعيد»!
{{ article.visit_count }}
بدأت رحلة الخط العربي قبل الأبجدية التي عثر عليها في اوغاريت «رأس شمرا»، وتم الحصول على كتابات عربية مدونة بخط المسند في أماكن عديدة من الجزيرة العربية، ويعتبر خط أهل اليمن الذي يسمى خط حِمْيَر من أوائل الخطوط العربية، ثم جاء خط المسند حتى بعد ظهور الإسلام. والجميل أنه في هذه الفترة كان الخط العربي يسمى نسبة إلى القبائل العربية كالخط الآرمي نسبة إلى قبيلة إرم والخط الصفائي نسبة إلى أرض الصفاة والخط الثمودي نسبة إلى قبيلة ثمود والخط اللحياني نسبة الى قبيلة لحيان وغيره، وبغض النظر عن رأس الخط العربي الذي اختلف عليه المؤرخون كونه آرمي الأصل أو مِسْنَدي القاعدة إلا أنه مع بزوغ الإسلام ونزول سورة العلق ظهر خط أهل مكة وبدأت الرحلة الجمالية للخط العربي.
الخط العربي فن زخرفي ورمز للهُوية العربية والحضارة ويوجد منه أنواع كثيرة، ولكن ما بقي منها حتى اليوم هي الخطوط الستة المستخدمة كخط الثلث الكلاسيكي الجميل، وخط النسخ الذي انتشر في العصور الإسلامية الوسطى، والكوفي الذي انتشر في عهد الدولة الفاطمية في مصر وفِي عهد السلاجقة في إيران، وخط الرقعة وهو من أنواع الخطوط السهلة، والديواني الذي استخدم لكتابة الدواوين، ثم الخط الفارسي الذي يعتبر من أجمل الخطوط.
الجدير بالذكر أن الخط العربي مر على عصور مختلفة كالعصر الأموي والعصر العباسي ولمعت أسماء خطاطين من أبرزهم ياقوت المستعصم، وخالد بن أبي الهياج، وقطبة المحرر، والضحّاك بن عجلان، وإسحاق بن حماد، وإبراهيم الشجري، وعلي بن هلال البغدادي.
ثم جاء العصر العثماني لتحظى اللغة العربية باهتمام كبير، فاهتم بها السلاطين العثمانيون كثيراً وكانت هي اللغة الرسمية العثمانية التي يكتب بها، وعلى الرغم من استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني سنة 1347 للهجرة إلا أن الخط العربي لايزال في تركيا له منزلته ومكانته ويتخرج من بين هؤلاء الأتراك خطاطون مبدعون.
عاش الخط العربي بين الأتراك أكثر من خمسة قرون، ويعتبرون عباقرة الخط العربي وفِي عهد العثمانيين بلغ الخط العربي ذروة الفن والجمال والكمال فلمعت أسماء عديدة منها مصطفى راقد، وحمدالله الأماسي، وأحمد قره حضاري، وماجد الزهدي، وحامد الآمدي والحافظ عثمان الذي كتب المصحف الشريف مرات عديدة، وله رواية مشهورة روتها عنه كتب التاريخ والفن وهي أنه لو تعرض عليه الخطوط المختلفة والتي يكتبها طوال الأسبوع سيعرف بحاسته الفنية خطه الذي كتبه يوم السبت لأنها أقل مرونة عن خطوط باقي أيّام الأسبوع بسبب توقفه عن ممارسة الخط يوم الجمعة، وهو إيحاء مهم لكل خطاط بأن عليه أن يمارس فن الخط باستمرار دون توقف لأنه فن يحتاج إلى الممارسة!
المتمرسون في الخط العربي يعملون دائماً في صمت، بعيداً عن الأضواء والشهرة، وحين يرسم الخط فإنه يعلن الحب على الحرف فيحّول الأبجدية إلى فن. والجميل أن الخطاط المتمرس يجعل من الحروف العربية لوحة فنية من خلال رشاقة خطه وتناسق سطوره بدءاً من القصبة التي استخدمها قديماً إلى الريشة فالقلم فهو فنان الحرف، وكما قال ابن المقفع: «الخط للأمير جمال، وللغني كمال، وللفقير مال».
مع بداية كل يوم حينما أضغط بأصابعي على مفاتيح الحروف بلوحة الطباعة بجهاز الحاسوب الخاص بي أتذكر طفولتي وطفولة أبنائي اليوم، فأنا من جيل درس الخط العربي بالمدرسة وكتب في كراسة تمارين الخط العربي، وأؤمن بأن كل إنسان له نصيب من خطه، وهناك علم يفسر الخط ومدى ارتباطه بالشخصية. بالمقابل أنا لست ضد التطور والتكنولوجيا والتحسر على الماضي، وعلى يقين بأن كل إنسان يعيش عصره ولكن أين أبناؤنا من هذا الإرث؟ ومن بين كم طفلٍ نرى طفلاً ذا خط جميل؟
إن أجهزة الحواسيب ألغت الكتابة اليدوية بأدواتها البسيطة وهي الورقة والقلم والتي تعتبر نباتات حية تشعر بعروق أصابعنا ليختلط حينها حبر القلم بإيقاع الشعور فيأتي الكلام مرسوماً، في وقت لا يدرك هذا الشعور ولا هذا الكلام جيل الناشئة الجديد!
نعم نحن في عصر التقنيات الحديثة ولكن من الواجب علينا الحفاظ على إرثنا التاريخي الفني في الخط العربي، فكيف لنا أن نوظف تقنيات الحاسب الآلي لتعليم فنون الخط العربي، وكيف لنا أن نلفت انتباه أبنائنا لهذا الجمال الذي وصل إلى الذوق العالمي؟
إن فن الخط العربي فن يجب أن يمارسه ويتعلمه أبناؤنا في المدارس بطريقة مكثفة منتظمة، وأن يدرج كمادة تسمى «فن الخط العربي» وتكون مشتركة، أي تدرس في حصة الفن وحصة اللغة العربية لأنها مادة تخصصية تشمل الجانب الذهني والبصري والتطبيقي الفني، إلى جانب أن يتعلّمها الطالب من مرحلة الصفوف الأولى وحتى تخرجه من الثانوية فربما يتخرج يوماً ما من أحد الجامعات العالمية رساماً برتبة خطاط، ففن الخط العربي منذ القدم وحتى اليوم يقدّر من دول الغرب أكثر من دول العرب.. ويختصر القول ما قاله زعيم الرسم الحديث بيكاسو: «إن أقصى ما وصلت إليه في فن الرسم وجدت الخط العربي قد سبقني إليه منذ أمد بعيد»!