من أجمل الدروس التي تعلمتها من أستاذتي في جامعة البحرين د. سوسن كريمي، قولها الثابت في عقلي بعد مضي أكثر من إحدى عشرة سنة، «لا بد من أن نمشكل المسلمات»، وعنت بكلماتها تلك أنه علينا أن نراجع كل شيء بالتدقيق والتمحيص والتفنيد وألا نركن للمعتقدات والأفكار والآراء ولا حتى ما يقال عنه أنه حقائق على أنه من المسلمات ما لم نخضعه للدراسة والاختبار والتحقق.ذلك الدرس العظيم استفدت منه في كثير من جوانب مختلفة من حياتي، ولكن ما يدعوني للعودة إليه اليوم، تصريح غريب من نوعه لـ «كيفين بوزارد» - عالم الرياضيات في جامعة إمبريال كوليدج لندن، أشار فيه إلى وجود براهين رياضية عديدة خاطئة، وأن تلك البراهين يعتمد عليها كثير من علماء الرياضيات والباحثين، لأنها ببساطة حظيت بقبول كبير من الشخصيات العلمية البارزة التي أجازتها وافترضت صحتها. ورغم التساؤل السطحي الذي يطرحه كثيرون حول جدوى دراستهم للرياضيات في المدارس والجامعات وما سينعكس عليه ذلك من فائدة في حياتهم، إلاَّ أنه من المهم التأكيد على أهمية الرياضيات في حياتنا، بل القول إن الرياضيات هي كل حياتنا.تكمن أهمية علم الرياضيات في أنه تقوم عليها كل التوازنات في الكون، وعليه تقوم أغلب العلوم المتطورة ومن خلاله حققنا ثورتنا الجديدة في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يقوم على الخوارزميات، ما يدعو للتساؤل حول إمكانية انهيار بعض من تلك الأسس المتينة التي اعتمدنا عليها في كثير من جوانب حياتنا، إذ جاء في تصريح بوزارد قوله «أخشى أن يكون جميع ما نشر في مجال الرياضيات خاطئاً، لعدم تحقق العلماء من التفاصيل، لقد رأيتهم يخطئون سابقاً»..!!وقد دعا بوزارد إلى «الاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي، لمساعدة العلماء في الوصول إلى استنتاجات سليمة دون الغوص في آلاف الصفحات من عمليات التحقق المبهمة، إذ بإمكان أدوات الذكاء الاصطناعي تولي تلك الأعمال المملة». وأضاف «حان الوقت لإنشاء مجال جديد من الرياضيات مخصص لأتمتة البراهين، إذ أصبحت أعظم البراهين معقدة جداً فلا يمكن لأي إنسان على وجه الأرض فهم جميع تفاصيلها، ناهيك عن التحقق منها، وهذا ما يجعلنا بحاجة للمساعدة». كون أغلب البراهين المستخدمة في الرياضيات تعود إما لنتائج منشورة من قبل أو لعلماء الرياضيات من الرعيل الأول.* اختلاج النبض:ثمة سؤالان يفرضان نفسيهما بقوة بشأن الدعوة إلى أتمتة البراهين سواء للتحقق من صحة النظريات الرياضية أو إخضاع بقية العلوم الأخرى للاختبار أيضاً. الأول، ماذا لو اكتشفنا فعلاً أن العلوم المختلفة تقوم على نظريات سابقة غير صحيحة ودحضتها أتمتة البراهين الجديدة؟ وما الذي سيسفر عنه هذا الاكتشاف قبل تحقق مرحلة التصويب والتقويم؟ أما السؤال الثاني فيقوم على تراكمية النظريات العلمية، فإذا ما تهاوت النظرية الأم أو الأساس، أيعني أننا سنكون في عالم مفلس علمياً وعليه أن يعيد بناء أساساته من جديد بما في ذلك الذكاء الاصطناعي نفسه الذي نعتمد عليه في التحقق من صحة النظريات العلمية المختلفة؟