في إحدى المناقشات حول أحد الملوك العرب الذين عاشوا قبل آلاف السنوات، تطرق أحدهم إلى أن ثمة دراسات آركيولوجية تبرهن على أن هذا الملك لم يكن عربياً بل ينتمي إلى دولة إفريقية. وأن هذه الدولة امتد حكمها لبعض الأقاليم العربية في عهده، فنسب خطأ إلى العرب. وصادف النقاش وجود أحد الزملاء من تلك الدولة العربية، فثارت ثائرته واعتبر هذا الطرح شكلاً من الرغبات المبطنة للانتقاص من بلده. واعترض على استخدام التاريخ لتجريد بلده من أحد أقوى مكوناتها الثقافية. في البداية عقبت «لنفسي» بأن الزميل، كعادة الثقافة العربية يرد على الوقائع بالشعارات والوجدان. ولكن أظن أن هناك دروساً أهم من الدرس التقليدي السابق.
في محاضرة «تحقيق النصوص» عرض أحد الزملاء بحثه. وكان يحقق فيه إحدى الروايات الشهيرة عن شاعر عربي ربطته علاقة عاطفية مع إحدى الأميرات في قصر الخليفة. تتبع الزميل الروايات وأثبت أن الأميرة تقية نقية وزاهدة لا علاقة لها بالشعر واللهو. وأن الشاعر كان في جزء من حياته فارساً مغواراً شارك في كثير من الفتوحات. واستخلص في نهاية بحثه أن هذه الروايات كان الغرض منها الطعن في الخلاقة في ذلك الزمن، وأنها نسجت من رواة ينتمون إلى مشارب شتى على خلاف مع الدولة في ذلك الوقت. وأثناء الاستماع لعرض الزميل ذهلت من كم القصص المختلف عما نعرفه والمبثوث بغزارة في كتب السير والأدب. ولكن تعدد الروايات للقصة الواحدة قضية تستحق التأمل أكثر من قصة علاقة شاعر بأميرة.
حين تعود إلى كتب التاريخ والسير والأدب للبحث في قضية أو قصة ما ستجد، في الغالب، وجود روايتين متناقضتين للحدث الواحد وبالقوة ذاتها. ذلك أن مهمة المؤرخ سابقاً كانت جمع جميع الروايات كي لا تضيع مع الزمن، وأن مهمة القارئ تحقيقها. فإذا اعتمدت رواية ما، سيقفز أمامك من يدحض اعتمادك بأسانيد وأساليب وبراهين من جهته هو. وسأعترف أولاً أني لا أجيد سلك تلك الطرق في تحقيق الروايات. ولكنني كقارئة، جيدة، سأستنتج أن هذا التراث صنع بالإنصاف، مناصفة بين كثير من المختصمين. بحيث يجد كل صاحب هوى ما يريده في تلك القصص والأحداث والوقائع التاريخية.
وستتحول الروايات إلى أزمة في حال أمتنا العربية، التي لم تحسم علاقتها بالتاريخ. فالتاريخ عند العرب ليس عنصراً منفصلاً عن كيان الأمة، صنعه أشخاص عاشوا وانقضت أيامهم. بل التاريخ جزء من الهوية والذاكرة الجمعية التي تؤثر في سلوكنا إلى يومنا هذا. لذلك يكتسب التاريخ حصانة خاصة، خصوصاً في المحطات المضيئة منه التي كان العرب فيها على مستوى من القوة والتفوق. وتحظى بعض الرموز التاريخية بحصانة ضد النقد أو التنقيب كما لو كانوا أحياء يملكون حصانة سياسية ودبلوماسية. فلا غرابة إذن إن صار التاريخ أحد ميادين الخصومة بين العرب أنفسهم.
في محاضرة «تحقيق النصوص» عرض أحد الزملاء بحثه. وكان يحقق فيه إحدى الروايات الشهيرة عن شاعر عربي ربطته علاقة عاطفية مع إحدى الأميرات في قصر الخليفة. تتبع الزميل الروايات وأثبت أن الأميرة تقية نقية وزاهدة لا علاقة لها بالشعر واللهو. وأن الشاعر كان في جزء من حياته فارساً مغواراً شارك في كثير من الفتوحات. واستخلص في نهاية بحثه أن هذه الروايات كان الغرض منها الطعن في الخلاقة في ذلك الزمن، وأنها نسجت من رواة ينتمون إلى مشارب شتى على خلاف مع الدولة في ذلك الوقت. وأثناء الاستماع لعرض الزميل ذهلت من كم القصص المختلف عما نعرفه والمبثوث بغزارة في كتب السير والأدب. ولكن تعدد الروايات للقصة الواحدة قضية تستحق التأمل أكثر من قصة علاقة شاعر بأميرة.
حين تعود إلى كتب التاريخ والسير والأدب للبحث في قضية أو قصة ما ستجد، في الغالب، وجود روايتين متناقضتين للحدث الواحد وبالقوة ذاتها. ذلك أن مهمة المؤرخ سابقاً كانت جمع جميع الروايات كي لا تضيع مع الزمن، وأن مهمة القارئ تحقيقها. فإذا اعتمدت رواية ما، سيقفز أمامك من يدحض اعتمادك بأسانيد وأساليب وبراهين من جهته هو. وسأعترف أولاً أني لا أجيد سلك تلك الطرق في تحقيق الروايات. ولكنني كقارئة، جيدة، سأستنتج أن هذا التراث صنع بالإنصاف، مناصفة بين كثير من المختصمين. بحيث يجد كل صاحب هوى ما يريده في تلك القصص والأحداث والوقائع التاريخية.
وستتحول الروايات إلى أزمة في حال أمتنا العربية، التي لم تحسم علاقتها بالتاريخ. فالتاريخ عند العرب ليس عنصراً منفصلاً عن كيان الأمة، صنعه أشخاص عاشوا وانقضت أيامهم. بل التاريخ جزء من الهوية والذاكرة الجمعية التي تؤثر في سلوكنا إلى يومنا هذا. لذلك يكتسب التاريخ حصانة خاصة، خصوصاً في المحطات المضيئة منه التي كان العرب فيها على مستوى من القوة والتفوق. وتحظى بعض الرموز التاريخية بحصانة ضد النقد أو التنقيب كما لو كانوا أحياء يملكون حصانة سياسية ودبلوماسية. فلا غرابة إذن إن صار التاريخ أحد ميادين الخصومة بين العرب أنفسهم.