صدر عن مطبعة الأيام، في موفّى شهر ديسمبر 2019، كتاب جديد للكاتبين أحمد خليفة الكعبي وعبدالله خليفة الكعبي، وهو في مائة واثنتي عشرة صفحة من الحجم المتوسط بورق صقيل وإخراج متميز.
ومما لا شك فيه أن عنوان الكتاب «البحرين والتعليم، سبق وريادة» وتاريخ صدوره «العام 2019» يمنحان القارئ مفتاحاً رئيساً أول لفهم محتواه وتحديد نهج الكاتبين في تأليفه، فعام 2019 هو عام الاحتفاء بمرور قرن من الزمان على تأسيس التعليم النظامي بمملكة البحرين، وهو أمر جدير بأن تشد له الهمم، وتنضى له الأقلام لاستذكار ما تقدم من الجهود، وسلف من المبادرات جلاءً لما طوته السنونَ من الأحداث والتفاصيل، وتنويهاً بما قدم الرجال الأوائل من التضحيات، وحثاً لأجيال العهد الزاهر على استلام مشعل المسيرة المظفرة، والحفاظ على شعلته نائرةً مشعةً صامدةً أمام رياح العصر الآتية من كل صوب.
ولا غرو أنْ يكون الكتاب من جهة موضوعه شبيهاً بغيره من المؤلفات المهتمة بحدث المائوية، وأن يكون منتظماً في سلكها، آخذاً بنصيب من الجهود الكبيرة التي تكاملت مختلف التعبيرات الثقافية والوسائط التواصلية في البحرين للاضطلاع بنشرها حفظاً للمكاسب، وتخليداً للمآثر، ونشراً لفضائل البناة الأولين، ووفاءً لكل من أسرج في دجى الظلماء قبساً من نور العلم يهدي به إلى سواء السبيل.
لكنّ للكتاب من جهة شكله ومتنه ومنهج تأليفه وترتيب عناصره آياتٍ من التميز والسبق والريادة، نحتْ به نحوَ التفرد والطرافة.
فقد جاء الكتاب في فصول ستة، تصدرتها مقدمة عامة عن قيمة العلم والتعليم ومنزلتهما عند أهل البحرين، وتوّجتها خاتمة خاصة أفصح فيها الكاتبان عن دوافع التأليف وغاياته الثاوية خلف السطور والعبارات. وبين المقدمة والخاتمة فصولٌ، هي في الحقيقة «عهودٌ» من حكم أصحاب السمو قادة المملكة طيلة مسيرةِ بناءٍ ممتدةٍ عبر الزمان والمكان كانت انطلاقة التعليم ونهضته من بين منجزاتها الكثيرة.
وأول ما يشد القارئ إلى الكتاب منهج البناء الزمني العكسي لفصوله، أو لعهوده، فقد دأب المؤرخون على أن ينطلقوا من البدايات الأولى لوقائع التاريخ ومسيرات الأمم، وأن يسيروا طرداً باتجاه الحاضر. غير أن الكاتبين سارا بنا، وبالتاريخ معاً، سيراً عكسياً، فانطلقا من اللحظة الراهنة، وأوغلا في ثنايا التاريخ رجوعاً إلى البدايات. وإنه لمن الطريف الممتع أن تجاريَ هذا النهج المبتدع في الكتابة، فيأخذك رويداً مما هو ماثل بين يديك من معالم التاريخ شاهدةً ومشهودةً ليتراجع بك فصلاً ففصلاً، أو عهداً فعهداً، نحو ما يكون لك به قريب عهد، ثم يمرّ بك على معالمَ أبعدَ صارت أقربَ عندك إلى الذكرى المغشاة بالنسيان، ليضعك في النهاية في موضعٍ من التاريخ لم تشهد من أحداثه أمراً، ولم تقصَّ عن رجالاته أثراً أو خبراً، فلا تملك حينئذ إلا أن تصغي إلى الكتاب مستفيداً متفكراً، فمعتبراً.
من المنجز الحاضر الذي يطاول النجوم شموخاً بالحس والمعنى، وباتجاه مستقيم نحو أولى حبات الحصى والرمل والطين وسعفات النخيل تشيد بها السواعد التليدة حصوناً للعلم والمعرفة ومتاريس تصدّ جحافل الجهل والظلام... يأخذك الكاتبان بثبات نحو البدايات، فلا يزالان بك حتى تقف على سمات السبق والفضل لمن بسط لك من الأجداد يداً، أو مدّ لك سبباً به ترقى، وتستمر.
ليس بمادة الكتاب ما يدعو إلى التمحيص، وليس بروايته ما يدعو إلى النخل أو التخمين أو «الجرح والتعديل»، فمن خصال الكاتبين البارزة أنهما يقيدان الفكرة بالحجة، ويوثقان الحدث بالشاهد، ويرسخان الفعل بالبرهان، ويقيمان الحجة بالدليل رقماً أو تاريخاً أو رسماً أو صورة... ولا شيء يمكن أن يكون أصدق لنص التاريخ أو التأْريخ من أن تجتمع فيه فكرة الكاتب وشهادة الشاهد خطاً وختماً ولساناً وبياناً... فشهودُ هذا الكتاب أغلبهم أحياء، وشواهدُ التعليم كلها تشخص صروحاً ومعاهد للعلم والعمل، وبراهينُ قرنٍ من التطور يجليها الكتاب نصاً، ويراها الرائي عياناً... فهما الشاهدان من التاريخ وله.
وإذِ اختار الكاتبان أن يتقصيا التفاصيل الدقيقة للبدايات وما تلاها، فإنهما لم يغفلا عن متابعة نبض التطور، ومجاراة وتيرة البناء، فجهدا في البحث عن دلائل الإنجاز حتى انتهى كتابهما متحفاً للتاريخ، ومرصداً للأحداث، ومنصة للمعطيات والأرقام ووسائل التوثيق والبيان، فإذا هو صورة للواقع تحكي قصة فريدة للتحول في النص ـ كقصة البحرين في التاريخ ـ من رسم العبارة خطاً ورقعة إلى وسم الصورة لوناً ومشهداً.
وأما الفصل الأخير فله في الكتاب قصة وأثر، إذ هو فصل الاحتفاء بالمكان حقيقة ورمزاً، بعد هيمنة الزمان خطاً متصلاً على خمسة الفصول السابقة له، وقد كان لهذا الفصل من نفسيْ الكاتبين منزلة سنية، إذ خصا به منطقة البسيتين لدورها في احتضان البدايات تصريحاً، ولهوىً في نفسيهما لم يقدرا على كتمانه فانساح من قلميهما بوحاً بحبّ مكانٍ من البحرين أثيلٍ أثيرٍ عبقت أرضه بسحر اللؤلؤ والنخل والعيون والسواقي والفرجان والأزقة، وحفلت سماؤه بأصوات الصيادين ولحون «النهامين» تتردد على وجه الدهر بين سيف البحر ويمه البعيد.
البحرين، والتعليم، والسبق، والريادة... وهذا الكتاب، خمسة رموز أخرى، أو خمس «دانات» مضيئة توشح راية البحرين.
{{ article.visit_count }}
ومما لا شك فيه أن عنوان الكتاب «البحرين والتعليم، سبق وريادة» وتاريخ صدوره «العام 2019» يمنحان القارئ مفتاحاً رئيساً أول لفهم محتواه وتحديد نهج الكاتبين في تأليفه، فعام 2019 هو عام الاحتفاء بمرور قرن من الزمان على تأسيس التعليم النظامي بمملكة البحرين، وهو أمر جدير بأن تشد له الهمم، وتنضى له الأقلام لاستذكار ما تقدم من الجهود، وسلف من المبادرات جلاءً لما طوته السنونَ من الأحداث والتفاصيل، وتنويهاً بما قدم الرجال الأوائل من التضحيات، وحثاً لأجيال العهد الزاهر على استلام مشعل المسيرة المظفرة، والحفاظ على شعلته نائرةً مشعةً صامدةً أمام رياح العصر الآتية من كل صوب.
ولا غرو أنْ يكون الكتاب من جهة موضوعه شبيهاً بغيره من المؤلفات المهتمة بحدث المائوية، وأن يكون منتظماً في سلكها، آخذاً بنصيب من الجهود الكبيرة التي تكاملت مختلف التعبيرات الثقافية والوسائط التواصلية في البحرين للاضطلاع بنشرها حفظاً للمكاسب، وتخليداً للمآثر، ونشراً لفضائل البناة الأولين، ووفاءً لكل من أسرج في دجى الظلماء قبساً من نور العلم يهدي به إلى سواء السبيل.
لكنّ للكتاب من جهة شكله ومتنه ومنهج تأليفه وترتيب عناصره آياتٍ من التميز والسبق والريادة، نحتْ به نحوَ التفرد والطرافة.
فقد جاء الكتاب في فصول ستة، تصدرتها مقدمة عامة عن قيمة العلم والتعليم ومنزلتهما عند أهل البحرين، وتوّجتها خاتمة خاصة أفصح فيها الكاتبان عن دوافع التأليف وغاياته الثاوية خلف السطور والعبارات. وبين المقدمة والخاتمة فصولٌ، هي في الحقيقة «عهودٌ» من حكم أصحاب السمو قادة المملكة طيلة مسيرةِ بناءٍ ممتدةٍ عبر الزمان والمكان كانت انطلاقة التعليم ونهضته من بين منجزاتها الكثيرة.
وأول ما يشد القارئ إلى الكتاب منهج البناء الزمني العكسي لفصوله، أو لعهوده، فقد دأب المؤرخون على أن ينطلقوا من البدايات الأولى لوقائع التاريخ ومسيرات الأمم، وأن يسيروا طرداً باتجاه الحاضر. غير أن الكاتبين سارا بنا، وبالتاريخ معاً، سيراً عكسياً، فانطلقا من اللحظة الراهنة، وأوغلا في ثنايا التاريخ رجوعاً إلى البدايات. وإنه لمن الطريف الممتع أن تجاريَ هذا النهج المبتدع في الكتابة، فيأخذك رويداً مما هو ماثل بين يديك من معالم التاريخ شاهدةً ومشهودةً ليتراجع بك فصلاً ففصلاً، أو عهداً فعهداً، نحو ما يكون لك به قريب عهد، ثم يمرّ بك على معالمَ أبعدَ صارت أقربَ عندك إلى الذكرى المغشاة بالنسيان، ليضعك في النهاية في موضعٍ من التاريخ لم تشهد من أحداثه أمراً، ولم تقصَّ عن رجالاته أثراً أو خبراً، فلا تملك حينئذ إلا أن تصغي إلى الكتاب مستفيداً متفكراً، فمعتبراً.
من المنجز الحاضر الذي يطاول النجوم شموخاً بالحس والمعنى، وباتجاه مستقيم نحو أولى حبات الحصى والرمل والطين وسعفات النخيل تشيد بها السواعد التليدة حصوناً للعلم والمعرفة ومتاريس تصدّ جحافل الجهل والظلام... يأخذك الكاتبان بثبات نحو البدايات، فلا يزالان بك حتى تقف على سمات السبق والفضل لمن بسط لك من الأجداد يداً، أو مدّ لك سبباً به ترقى، وتستمر.
ليس بمادة الكتاب ما يدعو إلى التمحيص، وليس بروايته ما يدعو إلى النخل أو التخمين أو «الجرح والتعديل»، فمن خصال الكاتبين البارزة أنهما يقيدان الفكرة بالحجة، ويوثقان الحدث بالشاهد، ويرسخان الفعل بالبرهان، ويقيمان الحجة بالدليل رقماً أو تاريخاً أو رسماً أو صورة... ولا شيء يمكن أن يكون أصدق لنص التاريخ أو التأْريخ من أن تجتمع فيه فكرة الكاتب وشهادة الشاهد خطاً وختماً ولساناً وبياناً... فشهودُ هذا الكتاب أغلبهم أحياء، وشواهدُ التعليم كلها تشخص صروحاً ومعاهد للعلم والعمل، وبراهينُ قرنٍ من التطور يجليها الكتاب نصاً، ويراها الرائي عياناً... فهما الشاهدان من التاريخ وله.
وإذِ اختار الكاتبان أن يتقصيا التفاصيل الدقيقة للبدايات وما تلاها، فإنهما لم يغفلا عن متابعة نبض التطور، ومجاراة وتيرة البناء، فجهدا في البحث عن دلائل الإنجاز حتى انتهى كتابهما متحفاً للتاريخ، ومرصداً للأحداث، ومنصة للمعطيات والأرقام ووسائل التوثيق والبيان، فإذا هو صورة للواقع تحكي قصة فريدة للتحول في النص ـ كقصة البحرين في التاريخ ـ من رسم العبارة خطاً ورقعة إلى وسم الصورة لوناً ومشهداً.
وأما الفصل الأخير فله في الكتاب قصة وأثر، إذ هو فصل الاحتفاء بالمكان حقيقة ورمزاً، بعد هيمنة الزمان خطاً متصلاً على خمسة الفصول السابقة له، وقد كان لهذا الفصل من نفسيْ الكاتبين منزلة سنية، إذ خصا به منطقة البسيتين لدورها في احتضان البدايات تصريحاً، ولهوىً في نفسيهما لم يقدرا على كتمانه فانساح من قلميهما بوحاً بحبّ مكانٍ من البحرين أثيلٍ أثيرٍ عبقت أرضه بسحر اللؤلؤ والنخل والعيون والسواقي والفرجان والأزقة، وحفلت سماؤه بأصوات الصيادين ولحون «النهامين» تتردد على وجه الدهر بين سيف البحر ويمه البعيد.
البحرين، والتعليم، والسبق، والريادة... وهذا الكتاب، خمسة رموز أخرى، أو خمس «دانات» مضيئة توشح راية البحرين.