أثقل الكلمات على أي كاتب، هي تلك التي يرثي فيها شخصاً عزيزاً، ولطالما عاهدت نفسي أن أبقي كلماتي بعيدة عن الرثاء، لكن القدر أقوى منا جميعاً، ومشاعر البشر لا يمكن تكبيلها.

أرثي بكلمات ثكلى بالدموع صديقاً، بل أخاً عزيزاً قلما تتحصل عليه في هذا الزمن، رجل عرفته من داخله الجميل قبل خارجه الأجمل، إنسان نقي السريرة، طيب القلب، لم نعرف وجهه إلا وابتسامة رائعة نقية تكسوه.

لسنوات طوال رسم الفنان البحريني المبدع علي الغرير الابتسامة والضحكة الصادقة على محيا جموع غفيرة من البشر، ليست في البحرين فقط، بل على مستوى الخليج والعالم العربي، وأذكر أنني قبل أسابيع قليلة كنت أشعر بالفخر بسبب علي الغرير، حينما كان يتحدث عنه أصدقاء في سلطنة عمان بكل حماس وحب، كيف أنه نجم في أخلاقه وفنه، وكيف أنه سفير لمملكة البحرين يحق لبلده أن تفخر به.

أذكر قبل سنوات، طلب مني أبنائي عبدالله وعبدالرحمن حينما كانوا صغاراً أن يقابلوا علي الشهير بشخصية «طفاش»، قالوها «نريد أن نرى طفاش»، فأخذتهم بالسيارة لموقع قرية التصوير التراثية بالمالكية، وهناك كان علي وكوكبة من نجوم الفن البحريني الجميل، ركضوا باتجاهه واحتضنوه، فاحتضنهم بكل حب، وكان المطر يتساقط فخلع معطفه وظللهم به، ما أجمل قلبك يا علي.

كآلاف غيري صعقني خبر رحيله يوم أمس، اتجهت لشقته، فوجدت جموعاً واقفة مكلومة الوجه، لم أكن أريد تصديق الخبر حتى لو رأيته بعيني، لكنه قدر الله وأمره.

لن أنسى الوجوه، لن أنسى رفيق دربه وصديقه الصدوق الفنان خليل الرميثي الشهير بشخصية «جسوم» وهو على الأرض باكيا بحرقة، احتضنته وسط الدموع ليقول «علي راح، تركني بروحي»، وهنا أقسم بأن كل كلمات اللغة لا تكفي لوصف مشهد انفصال روحين لصديقين كانا كجسد واحد. بدموعه التي لم تتوقف كان الفنان أمين الصايغ ومعه زملاء من الفنانين وغيرهم، كلهم كانوا يبكون الرجل الذي رسم الابتسامات على وجوهنا، وأجبرنا على محبته وإسكانه في قلوبنا، فعلي الغرير لم يكن مجرد فنان، بل كان إنساناً راقياً في كل شيء، شخص لم يجد منه أي إنسان آخر سوى المحبة والاحترام والأخلاق الرفيعة، لم يقدم فنه يوماً لأجل الشهرة أو بلوغ مستويات من البرستيج الفني أو تكديس المال، بل قدمه لإسعاد الناس، وتنقل بين البلدان مفاخراً ببلده البحرين، ومبتهجاً بكونه ابن لكل بلد خليجي يحل فيه.

كسرت قلوبنا يا علي، وأنت الذي كنت تقتحمها اقتحاماً بفنك، وكأنك تخبرنا بأن اتركوا همومكم ومشاغلكم، ودعوني أزين حياتكم بالضحك والفرح، آه يا صديقي لم نشبع منك، تركتنا في هذه الدنيا الفانية ورحلت إلى جوار ربك، جعلتنا نترحم عليك وندعو لك بقدر ما أسعدت الناس، أن يجعلك الله مع نبينا والصالحين ومع الضاحكين السعيدين في الآخرة.

لست أرثي فناناً هنا، بل أخاً وصديقاً وصاحب روح طاهرة وأياد نظيفة، عاش نظيفاً بسيطاً إنساناً راقياً، ورحل نظيف اليد والقلب. أبكي أخاً وأعزي أشقاءه الذين هم في منزلته إخوان لي في هذا الدنيا، وأسال الله لهم الصبر والسلوان بعد أسابيع قليلة من فقدانهم أيضاً لشقيقهم الآخر، أعزي وليد الغرير الإنسان الراقي طيب القلب، وأعزي أخي وصديقي الذي لا يمكن أن يمضي أسبوع حتى ألقاه، ولا يوم حتى أتواصل معه عبر تطبيقات الهاتف، مبارك الغرير، الإنسان الذي أعرفه بدماثة أخلاقه وابتسامته، وحبه الكبير لفريقه برشلونة، لكنه قبل ذلك عاشق للبحرين، فلا أنسى بكاءه ودموعه الغزيرة فرحا بفوز منتخبنا الوطني بكأس الخليج، ولا بكاءه أمس بفقدان شقيق روحه، علي الذي كسره وكسرنا جميعا معه.

لا حاجة للتعريف بعلي الغرير ومن يكون، كانت تغريدة واحدة كافية أنعيه فيها، لأجد مئات الرسائل والردود من كافة دول الخليج ودول عربية أخرى ترثيه وتعزي البحرين بفقدانه، بعضهم لم يصدق، وبعضهم كان مصدوما، فسنه الصغيرة كانت تعدنا بسنوات من العطاء والإبداع.

حتى الأمس، كان يعزي في حسابه على الإنستغرام الشعب العماني بوفاة السلطان قابوس رحمه الله، وقبلها بأيام كنا نفرح بما ينشره من صور وفيديوهات لإجازة مستحقة يقضيها مع أبنائه في تايلند، آثر إلا مشاركة متابعيه ومحبيه لحظاته السعيدة العائلية، بعد أن رسم بسمات وصنع ضحكات رائعة على أطفال يعانون من مرض السرطان.

ابن مخلص وبار لوطنه يغادر سطحها، ليتوسد ترابها الطاهر، رجل كريم النفس وعزيزها، طيب الأخلاق، صديق الجميع، محب لفعل الخير والعطاء، لم يطلب من بلده شيئاً سوى رضاها عليه، واليوم له دين على هذا الوطن، له واجب يجب أن نؤديه، فبعد علي زوجته وأبناؤه وأمه الطيبة كلهم في أعناق البحرين، هذا الوطن الذي لا يبخل على أبنائه المخلصين. أمنيتي كانت وأنا أنظر لجسده الطاهر ينقل لسيارة المستشفى بألا يحس أبناؤه بأنهم فقدوا أباهم الغالي، بأن يكون كل رجال البحرين لهم آباء، وأن الجميع دولة وأفراداً لهم سند وعون بإذن الله، فوالدهم حفر اسم البحرين في قلبه، حفره بدم مخلص وروح وطنية متفردة. والحمد لله يشكر جزيل الشكر سمو الشيخ ناصر بن حمد على توجيهه برعاية أبنائه من خلال المؤسسة الخيرية الملكية، فهو كما نعرفه عنه الناصر والسند لكل بحريني يرفع اسم بلاده.

آه يا علي، رحمك الله يا صديقي وأخي، وجعل مثواك الفردوس الأعلى. أنتم السابقون ونحن بكم لاحقون.