في كتابه العظيم «شرق وغرب رجولة وأنوثة، دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية»، رسم جورج طرابيشي صورة للعلاقة بين الشرق والغرب، كما تتمثل في الرواية العربية في القرن العشرين، انطلاقاً من الرواسب الكولنيانية التي ظلت باقية في وجدان المثقف العربي. الصورة تتمثل في الغرب «الذكوري» الذي سيطر على الشرق «الأنثوي» لعقود وقرون طويلة، ويحاول المهاجر العربي استعادة بعض «رجولته» في سياق سردي في تفاعله مع المكان والشخوص في الغرب. تلك مشاعر القرن العشرين. ولكن ماذا عن نظرتنا إلى الغرب في القرن الحادي والعشرين.
الموقف من الآخر هو أحد إشكالات الفكر العربي، في ظل تشتت إعادة بناء الذات، التي تبددت منذ سقوط آخر قلاع الدولة العباسية التي كانت تعبر عن الهوية العربية بشكل أو بآخر. فحين تكون في غير كيان متماسك جغرافياً وإنسانياً، فإن الآخر يصبح كلاً قوياً أقرب إلى المكعب المتماسك متعدد الأوجه المختلفة والمتراصة بقوة مرعبة. ولقد ظل الغرب لقرون عديدة بسبب الحالة الاستعمارية مركز الشر في أعين العرب. وظل العرب الذين تمكنوا من الاستقرار في الغرب والتأقلم معه فئة متجاوزة تستحق التفكر والتأمل. ولكن حين نتصفح قصص العرب الذين ماتوا غرقاً في سبيل الوصول إلى أوروبا، وحين نقلب صور مئات الآلاف من العرب في مخيمات اللجوء في أوروبا. ندرك أن شيئاً ما قد تغير وأن الغرب قد صار عند بعض العرب المنكوبين مركز النجاة.
الأزمة الطاحنة التي جُر إليها الوطن العربي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وتكللت بما سمي بـ«الربيع العربي» جعلت كثيراً من مواطني الدول العربية التي آل الصراع فيها إلى الحروب، يديرون أعناقهم إلى الغرب. بعض الذين استقر بهم المقام في الغرب قالوا إن فكرة الهجرة، وإلى الغرب تحديداً، لم تخطر ببالهم أبداً. ولكنهم اضطروا إليها اضطراراً. أضف إلى ذلك أن العديد من الشباب من غير المضطرين للهجرة بعبرون عن انبهار ما من واقع الحياة المنظم في الغرب، برغم طبيعة الحياة العملية الضاغطة هناك.
وما شجع تلك الأعداد الغفيرة على الانخراط في موجات الهجرة الكبرى للغرب هو طبيعة القوانين المدنية هناك التي تدعم اللاجئين، ثم تمنحهم مواطنة كاملة في حال استقرارهم ودخولهم في مناحي العمل والإنتاج، وكذلك تقبل القوانين الأوروبية والأمريكية للهويات المزدوجة والانتماءات المتعددة التي ستمنح المهاجر استقراراً نفسياً يعينه على البقاء لأجيال عديدة.
في البدء كان الشرق والشرقيون، ولم يعترف التاريخ القديم بغيرهم، حتى أن بعض الدراسات الأنثروبولوجية تعتبر الحضارة الأوروبية امتداد للحضارة الشرقية، فأوروبا شرقية الجذور، والخزان البشري الشرقي النفيس الذي غادر، أو يلوح بمغادرة الشرق سيمثل التغذية «الشرقية» الجديدة للعالم الغربي. ولكن ماذا عما سيبقى هنا؟ هل مازال وجدان الشرقي عاطفياً لا يستطيع أن يفارق أعشاشه؟ أم أن الوطن صار العش الآمن الذي ينتهي إليه المرء؟
{{ article.visit_count }}
الموقف من الآخر هو أحد إشكالات الفكر العربي، في ظل تشتت إعادة بناء الذات، التي تبددت منذ سقوط آخر قلاع الدولة العباسية التي كانت تعبر عن الهوية العربية بشكل أو بآخر. فحين تكون في غير كيان متماسك جغرافياً وإنسانياً، فإن الآخر يصبح كلاً قوياً أقرب إلى المكعب المتماسك متعدد الأوجه المختلفة والمتراصة بقوة مرعبة. ولقد ظل الغرب لقرون عديدة بسبب الحالة الاستعمارية مركز الشر في أعين العرب. وظل العرب الذين تمكنوا من الاستقرار في الغرب والتأقلم معه فئة متجاوزة تستحق التفكر والتأمل. ولكن حين نتصفح قصص العرب الذين ماتوا غرقاً في سبيل الوصول إلى أوروبا، وحين نقلب صور مئات الآلاف من العرب في مخيمات اللجوء في أوروبا. ندرك أن شيئاً ما قد تغير وأن الغرب قد صار عند بعض العرب المنكوبين مركز النجاة.
الأزمة الطاحنة التي جُر إليها الوطن العربي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وتكللت بما سمي بـ«الربيع العربي» جعلت كثيراً من مواطني الدول العربية التي آل الصراع فيها إلى الحروب، يديرون أعناقهم إلى الغرب. بعض الذين استقر بهم المقام في الغرب قالوا إن فكرة الهجرة، وإلى الغرب تحديداً، لم تخطر ببالهم أبداً. ولكنهم اضطروا إليها اضطراراً. أضف إلى ذلك أن العديد من الشباب من غير المضطرين للهجرة بعبرون عن انبهار ما من واقع الحياة المنظم في الغرب، برغم طبيعة الحياة العملية الضاغطة هناك.
وما شجع تلك الأعداد الغفيرة على الانخراط في موجات الهجرة الكبرى للغرب هو طبيعة القوانين المدنية هناك التي تدعم اللاجئين، ثم تمنحهم مواطنة كاملة في حال استقرارهم ودخولهم في مناحي العمل والإنتاج، وكذلك تقبل القوانين الأوروبية والأمريكية للهويات المزدوجة والانتماءات المتعددة التي ستمنح المهاجر استقراراً نفسياً يعينه على البقاء لأجيال عديدة.
في البدء كان الشرق والشرقيون، ولم يعترف التاريخ القديم بغيرهم، حتى أن بعض الدراسات الأنثروبولوجية تعتبر الحضارة الأوروبية امتداد للحضارة الشرقية، فأوروبا شرقية الجذور، والخزان البشري الشرقي النفيس الذي غادر، أو يلوح بمغادرة الشرق سيمثل التغذية «الشرقية» الجديدة للعالم الغربي. ولكن ماذا عما سيبقى هنا؟ هل مازال وجدان الشرقي عاطفياً لا يستطيع أن يفارق أعشاشه؟ أم أن الوطن صار العش الآمن الذي ينتهي إليه المرء؟