«من قال لا أدري فقد أفتى»، ولكن إن تكرر استخدامنا لـ«لا أدري» في مواضع عدة وظروف مختلفة وتحول مع مرور الوقت إلى سمة في شخصياتنا نداري بها جهلنا كثير من الأمور متشدقين بأننا لن ندلي فيما لا نعرفه، ولكن ضمنياً نقول إننا لن نعرف المزيد ولا يهمنا أن نعرف أصلاً. ونداري جهلنا أحياناً بدعوى عدم الاختصاص، وأن دائرة اختصاصنا تقتصر على كذا وحسب، فلا تسألوني عن أمر غيره مهما بدى بسيطاً أو بديهياً خارج سياق هذا التخصص..!!

أحياناً، نختار أن نضيق على أنفسنا في الفهم والعلم بذريعة التخصص، والله أوسع لنا الكون لنتأمل فيه ونبحث في كل موجوداته، وسمى نفسه الواسع. وأتساءل أحياناً، ما المانع في أن نفقه في كل شيء ولو بمقدار يفي باحتياجاتنا وتطورنا في الحياة؟ ما الذي يجبرنا أن نعمي بصائرنا وأبصارنا عن الحياة ومكنوناتها باسم التخصص ولا نرى الأمور إلا من زاوية واحدة ضيقة وثقب إبرة؟ وما الذي يجعلنا نستسيغ التعاطي مع لون واحد في الحياة ولدينا تدرجات لا محدودة ولا منتهية من الألوان؟

نسعى إلى الحرية الفردية في كل جوانب حياتنا ثم نتوقف عند العلم والتعلم والمطالعة والتزود بالوقود الفكري باسم التخصص. صحيح أن التخصص مطلوب مهنياً حسب ضرورات الحياة، فليس لأحد أن يتخيل أن يخضع للعلاج عند من لا يفقه في أمور الطب أو الصيدلة وما شابهها، ولكني أتحدث عن اللا تخصص في الحياة العامة، أن نحرم أنفسنا من توسيع المدارك والمعارف واستغلال القدرات البشرية «الاستغلال الأمثل» إن صح التعبير أو أمكن استغلالها بالكامل. أتفق مع الدعاة للتخصص، أن التخصص مطلوب مهنياً، ولكنه يجب أن لا يحجب عنا الحياة عبر اكتفائنا به ورؤيتنا المحدودة للعالم من خلاله وحسب.

أتفق أن ليس من عالم مطلق في كل شيء، ولا أحد يحمل العلم المطلق بالكامل أو الإحاطة بكل شيء علماً «فقل لمن يدعي في العلم معرفة... حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء»، الله وحده العليم المحيط بكل شيء علماً، ولكن الأصل في العلم –لو رجعنا بالزمن للوراء– هو المعرفة الشمولية كما هي لدى الفلاسفة الأوائل، ولو وقفنا على القرآن بتمعن، لوجدناه مرجعاً شاملاً غير متخصص في مجال دون آخر. ولعلنا نلاحظ أن الجهل بالدِّين ليس عذراً للتجاوز وليس فيه شفاعة لدخولك الجنة وكذلك هي بقية العلوم في الدنيا. لذا أرى أنه من الضروري محاولة معرفة الحد الأدنى الكافي من كل شيء كون أن الإحاطة بكل شيء أمر غير متحقق الحدوث بعمق كبير.

* اختلاج النبض:

تخصص لعملك لا بأس، ابحر في تفاصيل التفاصيل في حقل ما، ولكن ثمة فضاء واسع يمكنك أن تسبح فيه. نوّع قراءاتك ومعارفك، فالإغراق في شيء محدد يدعو للملل. إن القدرات البشرية المذهلة لم تخلق لنكبح جماحها بالتخصص أو لنقوضها به، والعقول البشرية لم تستخدم حتى الآن بالكامل وإن تفاوتت نسب استخدامها لدى البشر، فلا تتذرع بمحدودية قدراتك. ثم هل تخيلت يوماً لو استخدمت عقلك بالكامل ما الذي يمكن حدوثه؟!!