مازلت أذكر ملخص المسلسل المصري القديم «عبده غلط في الحساب». الذي حصل فيه بطل المسلسل «محمد مدبولي» على مبلغ كبير من المال، وافترض أنه لن يعيش أكثر من عشر سنوات، فقسم المال لينفقه على الأشهر المتوقعة. لكنه عاش أكثر من عشر سنوات اضطر بعدها أن يقضيها في التسول مردداً «عبده غلط في الحساب». ولأن أغلبنا لا يتعامل بالحساب مع المال إلا حين يخرج محفظته لتسديد الحساب، فإننا كثيراً ما ينتهي بنا المطاف لنكتشف أننا غلطنا في الحساب.

حين نتذكر حياتنا المالية كيف بدأت سوف نجد أننا تمكنا من العيش بسعادة بأقل النفقات. فأغلبنا اقتنى سيارة مستعملة في بداية مشواره المالي تلاها بسيارة جديدة متواضعة. وكنا نكتفي بأقل الضروريات، ولا نقترب من تخوم الكماليات إلا حين تفيض ميزانياتنا أو نرغب في مكافأة الذات. فلم نكن معنيين بتغيير هواتفنا إلا إذا عجزت تماماً عن العمل. ولم تكن السفريات جزءاً من نظامنا السنوي، وكانت الساعات والملابس والمطاعم لا تُفعل إلا بحكمة وبغرض.

ثم بعد ذلك صرنا نبحث عن السيارات الأفخر حسب السقف المحدد لنا. وصرنا نغير هواتفنا كلما ضجت الدعايات بهاتف أحدث وأكثر إدهاشاً. وصارت رحلات السفر موسما ثابتاً مثل الأعياد. وتساوت برامج ارتياد المطاعم مع روتين تناول الوجبات المنزلية. وتحولت أغلب الكماليات إلى ضروريات معبرة عن كل زيادة مالية نتقاضاها. ولم تعد الكماليات نمطاً اقتصادياً خليجياً، فأينما حللت في الدول العربية، ستجد أن ثقافة الاستهلاك صارت نمطاً اجتماعياً وثقافياً عصياً على المقاومة.

ثم ستتعرف، أثناء تقصيك عن منهجية الاقتصاد والتدبير، أن حساب الميزانية والادخار هي علم له منهجيات وأدوات وطرائق متعددة. ربما كان أشهرها منهجية «50، 30، 20». إذ عليك أن تخصص 50% من ميزانيتك للأساسيات الثابتة، و30% للنفقات المتغيرة والمهمة، وتخصص ما لا يقل عن 20% من الميزانية للادخار الثابت شهرياً. وطبعاً.. قليلاً وربما نادراً ما يجلس أحدنا على منضدته ليقسم نفقاته وفق هذه المعادلة أو أي معادلة أخرى تناسبه.

لذلك، يواجه الكثير ممن يتقاعدون باكراً أو يتورطون في ديون متعددة صدمة بالغة، حين يتعاملون مع ميزانياتهم الجديدة المتآكلة بالبحبوبة ذاتها التي كانوا ينفقون بها ميزانياتهم المريحة السابقة. وشعارهم الدائم «الله كريم، ستفرج». ولكن كيف تفرج بدون حسابات صحيحة؟

والملفت أن أصحاب الميزانيات المحدودة والنفقات المتعددة هم الأكثر حرصاً على دراسة نفقاتهم بالورقة والقلم. أما الذين تتوازن مدخولاتهم مع نفقاتهم فإن الإنفاق يستغرقهم ولا يهتمون بالوارد والخارج كثيراً.

في الدول المتقدمة يعلمون الأطفال حساب الميزانيات وأهمية الادخار في السنوات الباكرة من التعليم. يدربونهم على إدارة المشاريع وأساليب توفير الميزانيات وطرق إدارتها. فينشأ المرء هناك مدركاً لحركة كل دولار يمتلكه، من أين أتى وكيف انصرف. إنها مهارة وعلم وأسلوب سليم في إدارة الحياة لا نعتني نحن فيه. لذلك، فبرغم الوضع الاقتصادي المتوسط أو الجيد للكثيرين إلا أنهم يرون أنهم لا يملكون شيئاً. ويحتاجون للقروض لتوفير كل شيء. ووتيرة التبرم من الحال هي سمة دائمة في مجتمعاتنا سواء في الرخاء أم في اشتداد الوضع الاقتصادي.

نحن ببساطة لا نخطط لنفقاتنا ولا ندرس أوضاعنا الاقتصادية الشخصية إلا فيما ندر. نحن لا ندرك معنى الأزمات الاقتصادية والوضع الاقتصادي الصعب. لأننا لا نعرف أصلاً معنى الاقتصاد.