عندي هواية قد تبدو غريبة ولكنها علمتني أن قدرة الله سبحانه وتعالى أكبر من أن يدركها عقل البشر.

«لغة الجسد» علم يدرس واختصاص يحتاج إلى تدريب، وخبرتي -إن صح التعبير- في هذا المجال مستمدة من قرآتي الخاصة جداً للغة الأجساد التي أراقبها، لا من قرآتي في هذا العلم، فأنا أتسلى بقراءة من يعبرون أمامي قراءة أولية ومن ثم أقوم بنسج بقية قصة هذا الجسد الذي مر أمامي في خيالي، فأكمل بقية حواره الذي لم يقله وأنتقل به ومعه إلى عالم آخر.

أمارس هذه «الهواية» في السفر كثيراً لأن من يعبرون الطريق أمامي أشخاص لا أعرفهم ولم ولن ألتقي بهم مجدداً لذا فإن مراقبتي لهم ليست من باب الترصد والتجسس بل من باب سبر أغوار هذا العالم البشري بتعدد ثقافاته وتنوعاته العرقية والفكرية التي تنتهي في النهاية لتقف جميعها مع قواسم على أرض «الإنسانية» المشتركة.

فمثلاً يمر أمامي رجل وامرأة طاعنان في السن تتجاوز أعمارهما الثمانين، لكنه ممسك بيدها المليئة بالتجاعيد وكأنه متمسك بأغلى ما يملك وكأنه ممسك بكنزه المفقود، وهي تتكئ عليه وكأنه جدارها الباقي، صورة تنكسر دونها الصورة انعكاساً للحب الحقيقي وصورة من صور الإخلاص والوفاء اللا متناهي، والحقيقة الباقية بين اثنين قضيا ما لا يقل عن نصف قرن مع بعضهما البعض، فلا حاجة للنفاق هنا والمجاملة التي تكون احتمالاً وارداً لمن مازال في إمكانه وباستطاعته اللعب على الحبلين أما آخر الأيام فلا تحتمل ثقل المجاملة!!

هذه الصورة الواضحه تختلف عن أخرى تزداد طبقاتها الضبابية لأنها تحتمل أكثر من سيناريو، حين يمر زوجان أعمارهما لا تتجاوز الستين عاماً. هنا الرجل مازال في صحته بمعنى أن إمكانية النظر لأخرى واردة لكنه يمسك بيد زوجته وتلقي برأسها على كتفه، وعندي أنا تبتدئ بقية الرواية فيتم تفعيل برنامج لغة الأجساد لأجل سبر أغوار الطبقة الثانية من لغة هذين الجسدين، فهناك أزواج ترى المعادلة الكيميائية متطابقة بينهما، تجد بعداً روحياً يجمعهما يكمل بقية الرواية هو من يحرك اليدين والجذعين اقتراباً أو ابتعاداً.

فهناك اثنين يقترب الجسدان من بعضهما البعض وعلى درجة متساوية، ومسكة اليد لا تستطيع أن تفرق من هو الذي يمسك بالآخر لشدة تشابكهما، أما عند آخرين تجد أحدهما مائلاً أكثر ناحية الشريك في حين يكتفي الطرف الثاني بإبراء الذمة فقط! بقية القصة هنا من نسج الخيال أكسي بها العظام لحماً، فأتخيل حواراً يدور في عقله يؤكد أنه يفعل ما يرضيها الآن كي تترك له مساحة خاصة له وحده بقية اليوم ليحقق ما يرضيه هو بعيداً عنها، الازدواجية بأفقع صورها، صورة للناس وصورة له!

وهكذا يمر العابرون بروايتهم أمامي امرأة وابنتها جدة وحفيدتها رجل طاعن في السن لفظه العالم ولم يبقِ له عضيداً سوى كلبه، عشرات ومئات أحياناً لكل منهم سيناريو لحياة مليئة بكل تفاصيلها البشرية شجار وعناق لقاء وفراق فرح وغضب قلق وهم، ضحكة ودمعة، وفراغ وملل، خيانة وإخلاص ازدواجية وتصالح مع النفس كل التناقضات البشرية يحفل بها كل واحد من هؤلاء.

تخيلوا إذاً قدرة من رسم الأقدار لبلايين البشر على مر العصور وعلى مساحة كل الكرة الأرضية من شرقها إلى غربها من شمالها إلى جنوبها ومن سهولها لوديانها ومن صحرائها لغاباتها ومنذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا رغم تعدد أعراقهم وأجناسهم ولغاتهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وكلها مؤثرات رسمت تضاريسها إلا أنه لكل واحد من هؤلاء سيناريو خاص به ورواية له وحده، فأي قدرة هذه التي يعجز العقل عن إدراكها؟!