أظهرت موجة «فيروس كورونا» التي اجتاحت العالم المعولم الجبار، كم هو هش هذا العالم، وكم هو هش هذا الإنسان. فبمقدار هذه الثقة المبالغ فيها إلى حد الغرور في الإنسان وقدرات الإنسان وقدرات العلم اللامحدودة، يبقى الإنسان عاجزاً أمام مجرد فيروس لعين استطاع أن يفتك بالآلاف من البشر معيداً البشرية إلى عصور الأوبئة التي فتكت بالملايين عبر العصور.
كم هو موحش هذا العالم المسكون بهواجس الخوف، بالرغم من جبروته وادعائه وغروره، وصخبه وضجيجه وبريقه الخاطف وتدفق نهره الذي لا ينقطع، موحش عالم يفقد قدرته على التوقف والتأمل والانتظار والاعتذار والاعتبار، يفقد صبره عند صورة الإنسان يسحقه الاحتياج والمرض والحروب المجنونة المغرورة. فلا يتوقف لالتقاط أنفاسه أمام طفل تدهسه شاحنة بعشرة أطنان. يتبلد أمام ضعف الإنسان يداهمه الخوف. فيفقد حتى القدرة على إفشاء السلام.
موحش عالم يضيق فيه الخناق على «الإنساني» فينا، لنتحول إلى كائنات بلاستيكية، نتحرك كما الدمى المتحركة، وكل شيء فينا مبرمج على نحو آلي: الحركات السكنات، وخط السير، الأفعال، وردودالأفعال، الحسابات، الكلمات:
تدخل بوابة الشارع: لا طيور ولا صفصاف ولا وجوه ولا ابتسامات.. الكل يؤدي رقصة المارش المعهودة، بنفس الإيقاع، والمزمار، تنظر ولا تنظر، تسمع ولا تسمع.
تدخل بوابة الشارع الثاني: لا أحد غير الصفيح المتحرك ونوافذ الأكل السريع إمعاناً في تجريدك مما بقي من إنسانية باقية من الليلة البارحة. موحش الشارع الثالث: أقنعة أواخر الليل تكشر في وجهك وضحكات مجلجلة بلا معنى، وبلا روح تخترق سمعك. تخطو الخطوة نحو البوابة الرابعة بلامبالاة، فتشعر أن هذه البناية الزجاجية الشاهقة الواقفة بلا معنى، تسقط على رأسك، تدق عنقك وتذهب بما بقي من روحك، فتجمع أشلاء جسدك وتلملم ما بقي من بقاياك وتقرأ اللافتة المضوأة: «ممنوع الدخول، ممنوع أن تطير العصافير، ممنوع أن تبحث في الشارع عن فسحة هواء بعيداً عن رماد الليل المعفر بالصفيح العابر بخيلاء»..
تعبر بوابة الشارع الخامس: تجلس مرهقاً مرهف السمع، تطالع الساعة المندفعة إلى الفضاء، وروائح أبخرة الطعام الرديء والإسفلت وضجيج المعدن المنساب في الطريق، وتنبعث في آخر الطريق المدخن أغنية قديمة: «موحش ما بقي من روح الليل واليوم الذي يليه، في زمن القفر أدخل كهفك واصرخ: يا إلهي كم هو موحش هذا العالم، بلا شجر وبلا ورد يفوح، بلا ابتسامات مشرقات لصبايا الحي العتيق تعطر الأرض والفضاء، وعند نهاية الشارع تكون بوابات النهر مسدودة، وتشتهي أن تطير.. بلا جدوى».
موحش عالم يكتب الناس فيه عن الوقائع بشكل «وقيعي»، وتنتشر الأخبار بقدر من الشماتة والكفر وانعدام الحس الإنساني عند تداول معلومات على قدر من الدقة يتعذر الاختلاف حولها وفيها: كأن يموت الناس يوم إجازتهم في بيوتهم ولا يقوون على الذهاب الى حيث يذهبون. عالم يتم فيه تحريف وتزوير الحقيقة لصالح النزوات والمصالح والطوائف، تحت تأثير الدوافع العصبية الآنية، كأن يختلفون حول قراءة ورطة البشرية في طريقها نحو التقدم والسيطرة على الطبيعة، دون أن نلتفت إلى ذاكرة القتال من حولها، فكم تقاتلت قبائل، وشعوب، وأمم، بسبب الاختلاف في تأويل ماضيها الذي كان موهوباً للزيف، منذ اللحظات الأولى لتدوينه، وتزييف التاريخ ليس بدعة مستحدثة تتشوّق إلى مذاقها الألسنُ والأقلام، إنه حرفة دأبت البشرية على تناقلها وتوارثها، مثلما توارثت وتناقلت حرف نقش على المعادن وصك النقود وبناء البيوت وكتابة الهجاء... وانخراط مخطّطي الزيف والتزييف تارة باسم النصّ، وأخرى باسم نقد النصوص والتعليق عليها، وباسم حق الاختلاف أحياناً، من دون تحديد ماهيته وأفقه وأدواته، ليدخلنا مجدداً بوابة الوحشة...
* همس:
يغادرالحمام كل مساء
لا يعود في الصباح.
ولا الطيورتحطُّ على أكف العابرين.
في شارع الحلم.
لا عتبة للغياب
تنتشي بنكهة المساء
في جسدالصباح...
كم هو موحش هذا العالم المسكون بهواجس الخوف، بالرغم من جبروته وادعائه وغروره، وصخبه وضجيجه وبريقه الخاطف وتدفق نهره الذي لا ينقطع، موحش عالم يفقد قدرته على التوقف والتأمل والانتظار والاعتذار والاعتبار، يفقد صبره عند صورة الإنسان يسحقه الاحتياج والمرض والحروب المجنونة المغرورة. فلا يتوقف لالتقاط أنفاسه أمام طفل تدهسه شاحنة بعشرة أطنان. يتبلد أمام ضعف الإنسان يداهمه الخوف. فيفقد حتى القدرة على إفشاء السلام.
موحش عالم يضيق فيه الخناق على «الإنساني» فينا، لنتحول إلى كائنات بلاستيكية، نتحرك كما الدمى المتحركة، وكل شيء فينا مبرمج على نحو آلي: الحركات السكنات، وخط السير، الأفعال، وردودالأفعال، الحسابات، الكلمات:
تدخل بوابة الشارع: لا طيور ولا صفصاف ولا وجوه ولا ابتسامات.. الكل يؤدي رقصة المارش المعهودة، بنفس الإيقاع، والمزمار، تنظر ولا تنظر، تسمع ولا تسمع.
تدخل بوابة الشارع الثاني: لا أحد غير الصفيح المتحرك ونوافذ الأكل السريع إمعاناً في تجريدك مما بقي من إنسانية باقية من الليلة البارحة. موحش الشارع الثالث: أقنعة أواخر الليل تكشر في وجهك وضحكات مجلجلة بلا معنى، وبلا روح تخترق سمعك. تخطو الخطوة نحو البوابة الرابعة بلامبالاة، فتشعر أن هذه البناية الزجاجية الشاهقة الواقفة بلا معنى، تسقط على رأسك، تدق عنقك وتذهب بما بقي من روحك، فتجمع أشلاء جسدك وتلملم ما بقي من بقاياك وتقرأ اللافتة المضوأة: «ممنوع الدخول، ممنوع أن تطير العصافير، ممنوع أن تبحث في الشارع عن فسحة هواء بعيداً عن رماد الليل المعفر بالصفيح العابر بخيلاء»..
تعبر بوابة الشارع الخامس: تجلس مرهقاً مرهف السمع، تطالع الساعة المندفعة إلى الفضاء، وروائح أبخرة الطعام الرديء والإسفلت وضجيج المعدن المنساب في الطريق، وتنبعث في آخر الطريق المدخن أغنية قديمة: «موحش ما بقي من روح الليل واليوم الذي يليه، في زمن القفر أدخل كهفك واصرخ: يا إلهي كم هو موحش هذا العالم، بلا شجر وبلا ورد يفوح، بلا ابتسامات مشرقات لصبايا الحي العتيق تعطر الأرض والفضاء، وعند نهاية الشارع تكون بوابات النهر مسدودة، وتشتهي أن تطير.. بلا جدوى».
موحش عالم يكتب الناس فيه عن الوقائع بشكل «وقيعي»، وتنتشر الأخبار بقدر من الشماتة والكفر وانعدام الحس الإنساني عند تداول معلومات على قدر من الدقة يتعذر الاختلاف حولها وفيها: كأن يموت الناس يوم إجازتهم في بيوتهم ولا يقوون على الذهاب الى حيث يذهبون. عالم يتم فيه تحريف وتزوير الحقيقة لصالح النزوات والمصالح والطوائف، تحت تأثير الدوافع العصبية الآنية، كأن يختلفون حول قراءة ورطة البشرية في طريقها نحو التقدم والسيطرة على الطبيعة، دون أن نلتفت إلى ذاكرة القتال من حولها، فكم تقاتلت قبائل، وشعوب، وأمم، بسبب الاختلاف في تأويل ماضيها الذي كان موهوباً للزيف، منذ اللحظات الأولى لتدوينه، وتزييف التاريخ ليس بدعة مستحدثة تتشوّق إلى مذاقها الألسنُ والأقلام، إنه حرفة دأبت البشرية على تناقلها وتوارثها، مثلما توارثت وتناقلت حرف نقش على المعادن وصك النقود وبناء البيوت وكتابة الهجاء... وانخراط مخطّطي الزيف والتزييف تارة باسم النصّ، وأخرى باسم نقد النصوص والتعليق عليها، وباسم حق الاختلاف أحياناً، من دون تحديد ماهيته وأفقه وأدواته، ليدخلنا مجدداً بوابة الوحشة...
* همس:
يغادرالحمام كل مساء
لا يعود في الصباح.
ولا الطيورتحطُّ على أكف العابرين.
في شارع الحلم.
لا عتبة للغياب
تنتشي بنكهة المساء
في جسدالصباح...