ها هي مختلف قرى مملكة البحرين بمآتمها وحسينياتها -من المحرّق شمالاً حتى المالكية جنوباً- اتشحت بالسّواد إيذاناً بموسم عاشوراء للعام 1442هـ، موسم غير مسبوق هذه السنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى بفعل انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، إلا أن المملكة حرصت على إحيائها ضمن ضوابط استثنائية وبرمجة جداول العزاء والخطابة والإلقاء الشعري في المجالس الحسينية عن بُعد، لتبقى عاشوراء سبط الرسول محمد (ع) كما عهدها الجميع ذات منزلة خاصة في البحرين، رغم ما فرضته الجائحة من حواجز.عاهل البلاد المفدى -سدّد الله خطاه- لم يأل جهداً البتة منذ توليه مقاليد الحكم وإطلاق المشروع الإصلاحي في إصدار توجيهاته السامية لمختلف الأجهزة الحكومية كل عام، لتقديم كافة أنواع الخدمات والتسهيلات خلال مناسبة عاشوراء، بفضل ما تكفله المملكة من حرية لإحياء جميع الشعائر الدينية، وما تتميز به من روح الأسرة الواحدة التي تجمع كافة أبناء البحرين الأوفياء على قيم التكافل المجتمعي والتضامن والمحبة الأخوية.وجرياً على عادة جلالته الحميدة في كل عام، تم صرف المكرمة الملكية السخية للمآتم والروضات الحسينية لهذا العام الهجري، سائراً بثبات على نهج آبائه وأجداده حكام البحرين -طيب الله ثراهم- في مشاركة أبناء الطائفة الشيعية في مناسبة عاشوراء، ما يترجم الرعاية الأبوية الكريمة والمخلصة من والد الجميع لأبنائه في مختلف المناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية. النهج الملكي الداعم لرعاية واحترام الحريات الدينية على الدوام هو جزء مكمّل ولا يتجزأ من تاريخ البحرين العريق في هذا الشأن. فبحسب روايات ووثائق المؤرخين، يعود وجود المآتم والحسينيات بمصطلحها الحديث في المنامة وضواحيها إلى منتصف القرن السابع عشر، أي قبل أكثر من قرنين ونصف من الزمان، كان فيها سكان البحرين الكرام يستذكرون فيها العبرة من استشهاد الحسين بن علي -عليه السلام- واستنطاق الزمان العابر من واقعة الطف الفاجعة ونوائب العاشر من محرم بكامل تفاصيلها الكارثية.بركة «عيش الحسين» في البحرين لا تفرّق بين مسلم ومسيحي وبهائي ويهودي وسيخ وهندوس وبوذي، الجميع يأكلون من طعام عاشوراء، بل يشاركون في إحياء مراسمه الدينية والثقافية والاجتماعية والخيرية على أساس سنوي، وكأن المسلمين من الطائفة السنية والمسيحيين واليهود والهندوس وبهائيي البحرين شيعة المذهب في تلاحمهم وتعاضدهم مع إخوانهم المعزين، وشيعة البحرين بدورهم يفتحون مجالسهم الحسينية ومآتمهم ومضائفهم لجميع الناس على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم السماوية وغير السماوية، ضاربين أروع الأمثلة البشرية في التآخي والتعايش بسلام وألفة بشرية لا نظير لها على مستوى العالم. عاشوراء تعكس بما تحمله من معانٍ دينية وعطاء خيري، جوهر الإسلام المعتدل وأخلاق سيد شباب أهل الجنّة الحسين بن علي، الذي كان (ع) كريماً سخياً، زاهداً عابداً، صابراً حكيماً، معيناً للضعفاء والفقراء، قاضياً لحوائج السائلين، نصيراً للحق، وحليماً يعفو عمّن حاربه ووقف ضد الرسالة الإسلامية؛ التحليّ بآداب النبوة تلك تمثل رسالة صريحة لبناء مجتمع صالح متسامح مع جميع أفراده، الكلّ سواسية يتقبل بعضهم بعضاً دون أي اختصام أو تضاد في المعاملة. في خضم ما نمرّ به من كرب فيروسي وما فرضه علينا (كوفيد19) من تباعد اجتماعي قسري، فإن عاشوراء خالدة في وجداننا كمواطنين ومقيمين محبين لنصرة الحق والتسامح والتعايش بسلام فيما بيننا، كمسلمين سنة وشيعة وبهائيين ومسيحيين ويهود وهندوس وبوذيين، أسرة واحدة في السراء والضراء؛ كما سطّرها راعي نهضتنا الأول مليكنا حمد بن عيسى بقوله السامي: «بلادنا ستبقى واحة إخاء ومنارة سلام لأهلها ولجميع ضيوفها».* أمين عام مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي