مشكلة النخب الغربية، منذ الثورة الصناعية، وقيام النظم الديموقراطية الحالية، زعمها أنها حققت أعلى معايير الحياة الإنسانية السوية، وعلى العالم أن يلحق بها أو يُفرض عليه ذلك.
هذه النظرة الاستعلائية تعطي لأصحابها مقام الألوهية، وتسقط على غيرهم كل خطايا البشرية. فمدنيتهم حضارة، وقيمهم كونية، ورسالتهم إلهية. وبهذا المنطق برروا لأنفسهم استعمار الأرض، واستعباد الشعوب، وفرض معاييرهم الأخلاقية والعدلية وأسلوب حياتهم، كمرجعية لا تناقش لما يجب أن يكون عليه حال الإنسان أينما كان.
وما زالوا، بعد أن امتصوا دماء الشعوب، وأحرقوا الأرض في حروب عالمية شعاراتها أخلاقية وأدواتها همجية، وأهدروا موارد الأرض وسمموا سماءها، يقيمون من أبراجهم العاجية، ويحاضرون من منابرهم العلوية، ويبررون جرائمهم الكونية بنشر مبادئ العدالة والحرية والديموقراطية. ثم يتساءلون بكل براءة السذج: «لماذا يكرهوننا؟!».
جرائم أمريكا
لو أخذنا أمريكا أنموذجاً، لوجدنا أنها لا تخرج من صراع دموي إلا لتدخل في آخر، ولم تخلُ ولاية رئيس منذ تأسيسها من حروب، داخلها وخارجها. وأنها قامت أساساً على هياكل ملايين السكان الأصليين، وحصر من بقي منهم في مناطق جرداء، إلى يومنا هذا. وأنها وحدّت ولاياتها بحرب أهلية أسست لما يسمى بالأرض المحروقة لكل منطقة يتم الاستيلاء عليها، بعد استسلامها.
وفي القرن الماضي، قادت العالم في حربين عالميتين أزهقتا أرواح سبعين مليوناً وأحرقتا الأخضر واليابس، وأنهت ثانيتهما بتفجير مدينتين يابانيتين بالقنابل الذرية التي لا تزال آثارها البيئية موجودة إلى يومنا هذا. ولم تقدم للضحايا حتى الاعتذار فضلاً عن التعويض. وهي اليوم تحتل أو تهيمن على بلدان عربية ومسلمة، لا تسأل فيها عما تفعل، وهم يسألون.
فمن جرائم الحرب في سجون أبو غريب وغوانتنامو وباغرام، إلى قصف المدن والقرى في أفغانستان والعراق واليمن استهدافاً لإرهابيين، تواصل أمريكا لعب دور الخصم والحكم، القاضي والجلاد، في تحقيق مصالحها والدفاع عن أمنها، فيما تستنكر وتنكر على الآخرين.
الكيل بمكيالين
واليوم، تواصل إدارة بايدن منهج النفاق الاستعلائي، والانتقائية الميكيافيلية، والكيل بمكيالين في سياساتها الخارجية. فهي تعيد وتزيد في قضية المواطن السعودي جمال خاشقجي، رحمه الله، رغم محاكمة كل من ساهم في قتله، وإصدار أحكام بالإعدام والسجن لعشرات السنين على البقية، بينما تغض الطرف عن جرائم إيران اليومية تجاه شعوب بأكملها ومن بينها تلك التي تحكمها في عربستان وبلوشستان وكردستان وأذربيجان، وتتجاهل سجن مئات الألوف من المعارضين السياسيين في تركيا، وإغلاق صحف ومحطات تلفزيونية وإذاعية، وحتى مدارس ومعاهد وجامعات، وتدافع عن حق إسرائيل في قصف الفلسطينيين والتنكيل بهم، ومصادرة شحنات تطعيم كورونا المرسلة لهم.
وحتى في شأن قتل الصحافيين تحديداً، أين الغضبة «الخاشقجية» على قتل لقمان سليم في لبنان، وهشام الهاشمي في العراق، وروح الله زم في إيران، وراشيل كوري في إسرائيل، على سبيل المثال لا الحصر؟
العدالة الانتقائية
يقول الفيلسوف الهندي طاغور: «غريب أمر شبكة القانون، ينفذ منها السمك الكبير ويبقى الصغير». أما حال العدالة الأمريكية فتنطبق عليها مقولة الفيلسوف الفرنسي جين روستاند (1938) «اقتل رجلاً تسمى قاتلاً، اقتل مليوناً تسمى فاتحاً، اقتلهم جميعاً تسمى إلهاً». و«حمّالو الحطب» والمزايدون على «قميص خاشقجي» في النخب الأمريكية والغربية، لم يملوا من التعليق على تقرير صدر عام 2018 عن الاستخبارات الأمريكية، أشبه بتحليل صحافي ينتهي إلى استنتاجات مبنية على قرائن ظنية. ومع ذلك، تصدر الإدانات والمطالبة بالعقوبات ضد السعودية.
ويبدو مبدأ «تحميل القيادة المسؤولية عن تصرفات من يعمل تحت إدارتها»، مفصل على المقاس عند هذه النخب. الأمثلة كثيرة ومنها، أنه بعد 15 عشر عاماً من التحقيقات، حكمت محكمة العدل الدولية على سليم عياش بالمسؤولية المباشرة عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وطالبت الحزب بتسليمه. ومع ذلك لم يشمل الاتهام، فضلاً عن الأحكام، قيادات الحزب أو سادته في إيران أو النظام السوري. وقبل ذلك، لم يتم تحميل إدارة جورج دبليو بوش جرائم أبو غريب وباغرام وغوانتنامو وسجون «السي آي إيه» السرية. وفي كل مرة قبلت النخب بمنطق «التفاح الفاسد» لجنود وعملاء مارقين!
العدالة العوراء
أمريكا التي تحمل شعلة العدالة، وتؤمن بمبدأ أن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، تقفز إلى الأحكام بلا محاكمة، وتقبل باستنتاجات من وكالة الاستخبارات ذاتها التي أكدت وجود أسلحة دمار شامل لدى صدام حسين، وتطالب الرئيس نفسه الذي صوت في مجلس الشيوخ وقتها على غزو العراق بناء على أكاذيب الوكالة، بأن يكرر ذلك مع السعودية بناء على تقرير «أضعف»! وأخيراً اتهم تقرير استخباراتي مماثل الرئيس ترامب وفريقه بالتآمر مع الروس، وصدرت الأحكام الإعلامية والحزبية ضده، حتى أثبت تحقيق لجنة محايدة عينها الكونغرس، استمرت ثلاث سنوات وكلفت 50 مليون دولار، برأته من كل التهم، وأشارت إلى تورط إدارة اوباما، وحينها صمت الجميع.
ولو كانت أمريكا مقتنعة بصدقية التقرير الأخير وحريصة على تحقيق العدالة، فلماذا لم تقدم ما لديها من معلومات إلى النيابة السعودية أثناء التحقيق والمحاكمة «الشفافة» التي حضرتها السفارة الأمريكية مع بقية الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وتركيا ومنظمات حقوق الإنسان السعودية وأسرة الضحية؟ ولماذا لم تعط ِالفرصة لجهة قانونية أمريكية لتمحيص التقرير، والتثبت من الادعاءات ومراجعة الاستنتاجات؟ لم يفعلوا لأنهم يعلمون أن مثل هذا التأويلات لن تصمد في أي ساحة قانونية، فاكتفوا بتقديمها إلى محكمة الرأي العام، ومن خلال صحافة منحازة، نصبت نفسها الخصم والحكم، القاضي والجلاد، وأصدرت أحكامها غيابياً.
من المستفيد؟
في كل جريمة، أبحث عن المستفيد. وفي هذه الحملة الضارية على السعودية لا أجد مستفيداً سوى أعدائها التقليديين، وحلفائهم في أمريكا. ولعل أوضح هؤلاء عدوانية اللوبي الإيراني المتغلغل في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الليبرالية والحزب الديموقراطي. ورغم أن أكثر هؤلاء من المهاجرين بعد تغلب الثورة الخمينية، إلا أن ولاءهم لبلادهم يدفعهم للدفاع عنها، فالنظام يتغير والوطن باقٍ. ولعل بعضهم اقنع نفسه بأن توثيق العلاقة مع أمريكا قد يصلح حال النظام ويغلّب التيار «المعتدل» على «المتطرف»، و«الإصلاحي» على «العقائدي». وأبرز منظماتهم «المجلس الوطني الإيراني الأمريكي».
ثم هناك المتطرفون اليساريون والليبراليون في الحزب الديموقراطي والإعلام والجامعات ومراكز البحوث. والغريب، أن يضم هذا التحالف جماعات الإسلام السياسي، كمجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية «كير» «الإخواني»، وقياداتها ومنها نهاد عوض وعلاء بيومي، ورموزها الديموقراطية، النائبتان الهان عمر ورشيدة طليب. ولا ننسى الساسة الذين يتقنون المساومة باستثارة واستغلال الحملات الإعلامية الموجهة لتحصيل فواتير أجنداتها السياسية، والاقتصادية، والأمنية في المنطقة.
العلاقات بين المصالح والشعارات
العلاقات السعودية - الأمريكية لن تتأثر كثيراً بالمماحكات السياسية والإعلامية لرئيس بنى برنامجه الانتخابي على شعارات نخبوية تعلي من شأن القيم الأمريكية وتفرضها على العالم. وكسياسي مخضرم، فهو لا يستطيع أن يغيّر مساره بين ليلة وضحاها، وسيحاول أن يوازن بين الشعاراتية والعملانية، بين العنوان والنص. والسعودية لن تخضع لمساومات على مواقف وسياسات تتصل بأمنها القومي، لمواجهة حملات إعلامية وسياسية الفتها عبر تاريخها الطويل، وانتصرت عليها.
وكل من جاء قبل بايدن فعل مثله، وآخرهم ترامب، وما تصريحاته العدائية ضد السعودية خلال حملته عنا ببعيدة. ولكن مصلحة أميركا، التي انتخب الرئيس لتحقيقها، قبل وفوق كل اعتبار، ستغلب في نهاية المطاف. فواقع حال البشر، والساسة بخاصة، أنه «إذا تكلمنا فكلنا أصحاب مبادئ، وإذا عملنا فكلنا أصحاب مصالح».
وفي تقديري، أن إعادة فتح ملف «خاشقجي» في عهد رئيس ديموقراطي، ثم إغلاقه بعقوبات من قبيل المنع من دخول أمريكا، ضد من تمت معاقبتهم بالفعل بالسجن، والحكم على بعضهم بالإعدام، وبقوانين لمحاسبة اعتداء الحكومات الأجنبية على الصحافيين والمعارضين، ستنهي الجدل المتصل منذ 2018، وتلجم المزايدين على القضية، وتعيدنا إلى السطر الأول: التعاون الاقتصادي، محاربة الإرهاب، مواجهة إيران، وحل القضايا المعلقة: فلسطين، سوريا واليمن.
ويثبت هذا التوجه، تأكيد إدارة بايدن أهمية الشراكة مع السعودية في هذه الملفات، والتزامها أمن الخليج، ومنع حصول إيران على القدرات النووية، وتحجيم دعمها للميليشيات الإرهابية، ومواجهة تهديدها لأمن واستقرار المنطقة.
هذه هي العناوين الرئيسة المتفق عليها. ولكن، سيبقى الاختلاف في الرؤية، كما هو الحال عادة بين الشركاء والحلفاء، حول التفاصيل.
* نقلاً عن صحيفة «النهار العربي» اللبنانية
هذه النظرة الاستعلائية تعطي لأصحابها مقام الألوهية، وتسقط على غيرهم كل خطايا البشرية. فمدنيتهم حضارة، وقيمهم كونية، ورسالتهم إلهية. وبهذا المنطق برروا لأنفسهم استعمار الأرض، واستعباد الشعوب، وفرض معاييرهم الأخلاقية والعدلية وأسلوب حياتهم، كمرجعية لا تناقش لما يجب أن يكون عليه حال الإنسان أينما كان.
وما زالوا، بعد أن امتصوا دماء الشعوب، وأحرقوا الأرض في حروب عالمية شعاراتها أخلاقية وأدواتها همجية، وأهدروا موارد الأرض وسمموا سماءها، يقيمون من أبراجهم العاجية، ويحاضرون من منابرهم العلوية، ويبررون جرائمهم الكونية بنشر مبادئ العدالة والحرية والديموقراطية. ثم يتساءلون بكل براءة السذج: «لماذا يكرهوننا؟!».
جرائم أمريكا
لو أخذنا أمريكا أنموذجاً، لوجدنا أنها لا تخرج من صراع دموي إلا لتدخل في آخر، ولم تخلُ ولاية رئيس منذ تأسيسها من حروب، داخلها وخارجها. وأنها قامت أساساً على هياكل ملايين السكان الأصليين، وحصر من بقي منهم في مناطق جرداء، إلى يومنا هذا. وأنها وحدّت ولاياتها بحرب أهلية أسست لما يسمى بالأرض المحروقة لكل منطقة يتم الاستيلاء عليها، بعد استسلامها.
وفي القرن الماضي، قادت العالم في حربين عالميتين أزهقتا أرواح سبعين مليوناً وأحرقتا الأخضر واليابس، وأنهت ثانيتهما بتفجير مدينتين يابانيتين بالقنابل الذرية التي لا تزال آثارها البيئية موجودة إلى يومنا هذا. ولم تقدم للضحايا حتى الاعتذار فضلاً عن التعويض. وهي اليوم تحتل أو تهيمن على بلدان عربية ومسلمة، لا تسأل فيها عما تفعل، وهم يسألون.
فمن جرائم الحرب في سجون أبو غريب وغوانتنامو وباغرام، إلى قصف المدن والقرى في أفغانستان والعراق واليمن استهدافاً لإرهابيين، تواصل أمريكا لعب دور الخصم والحكم، القاضي والجلاد، في تحقيق مصالحها والدفاع عن أمنها، فيما تستنكر وتنكر على الآخرين.
الكيل بمكيالين
واليوم، تواصل إدارة بايدن منهج النفاق الاستعلائي، والانتقائية الميكيافيلية، والكيل بمكيالين في سياساتها الخارجية. فهي تعيد وتزيد في قضية المواطن السعودي جمال خاشقجي، رحمه الله، رغم محاكمة كل من ساهم في قتله، وإصدار أحكام بالإعدام والسجن لعشرات السنين على البقية، بينما تغض الطرف عن جرائم إيران اليومية تجاه شعوب بأكملها ومن بينها تلك التي تحكمها في عربستان وبلوشستان وكردستان وأذربيجان، وتتجاهل سجن مئات الألوف من المعارضين السياسيين في تركيا، وإغلاق صحف ومحطات تلفزيونية وإذاعية، وحتى مدارس ومعاهد وجامعات، وتدافع عن حق إسرائيل في قصف الفلسطينيين والتنكيل بهم، ومصادرة شحنات تطعيم كورونا المرسلة لهم.
وحتى في شأن قتل الصحافيين تحديداً، أين الغضبة «الخاشقجية» على قتل لقمان سليم في لبنان، وهشام الهاشمي في العراق، وروح الله زم في إيران، وراشيل كوري في إسرائيل، على سبيل المثال لا الحصر؟
العدالة الانتقائية
يقول الفيلسوف الهندي طاغور: «غريب أمر شبكة القانون، ينفذ منها السمك الكبير ويبقى الصغير». أما حال العدالة الأمريكية فتنطبق عليها مقولة الفيلسوف الفرنسي جين روستاند (1938) «اقتل رجلاً تسمى قاتلاً، اقتل مليوناً تسمى فاتحاً، اقتلهم جميعاً تسمى إلهاً». و«حمّالو الحطب» والمزايدون على «قميص خاشقجي» في النخب الأمريكية والغربية، لم يملوا من التعليق على تقرير صدر عام 2018 عن الاستخبارات الأمريكية، أشبه بتحليل صحافي ينتهي إلى استنتاجات مبنية على قرائن ظنية. ومع ذلك، تصدر الإدانات والمطالبة بالعقوبات ضد السعودية.
ويبدو مبدأ «تحميل القيادة المسؤولية عن تصرفات من يعمل تحت إدارتها»، مفصل على المقاس عند هذه النخب. الأمثلة كثيرة ومنها، أنه بعد 15 عشر عاماً من التحقيقات، حكمت محكمة العدل الدولية على سليم عياش بالمسؤولية المباشرة عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وطالبت الحزب بتسليمه. ومع ذلك لم يشمل الاتهام، فضلاً عن الأحكام، قيادات الحزب أو سادته في إيران أو النظام السوري. وقبل ذلك، لم يتم تحميل إدارة جورج دبليو بوش جرائم أبو غريب وباغرام وغوانتنامو وسجون «السي آي إيه» السرية. وفي كل مرة قبلت النخب بمنطق «التفاح الفاسد» لجنود وعملاء مارقين!
العدالة العوراء
أمريكا التي تحمل شعلة العدالة، وتؤمن بمبدأ أن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، تقفز إلى الأحكام بلا محاكمة، وتقبل باستنتاجات من وكالة الاستخبارات ذاتها التي أكدت وجود أسلحة دمار شامل لدى صدام حسين، وتطالب الرئيس نفسه الذي صوت في مجلس الشيوخ وقتها على غزو العراق بناء على أكاذيب الوكالة، بأن يكرر ذلك مع السعودية بناء على تقرير «أضعف»! وأخيراً اتهم تقرير استخباراتي مماثل الرئيس ترامب وفريقه بالتآمر مع الروس، وصدرت الأحكام الإعلامية والحزبية ضده، حتى أثبت تحقيق لجنة محايدة عينها الكونغرس، استمرت ثلاث سنوات وكلفت 50 مليون دولار، برأته من كل التهم، وأشارت إلى تورط إدارة اوباما، وحينها صمت الجميع.
ولو كانت أمريكا مقتنعة بصدقية التقرير الأخير وحريصة على تحقيق العدالة، فلماذا لم تقدم ما لديها من معلومات إلى النيابة السعودية أثناء التحقيق والمحاكمة «الشفافة» التي حضرتها السفارة الأمريكية مع بقية الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وتركيا ومنظمات حقوق الإنسان السعودية وأسرة الضحية؟ ولماذا لم تعط ِالفرصة لجهة قانونية أمريكية لتمحيص التقرير، والتثبت من الادعاءات ومراجعة الاستنتاجات؟ لم يفعلوا لأنهم يعلمون أن مثل هذا التأويلات لن تصمد في أي ساحة قانونية، فاكتفوا بتقديمها إلى محكمة الرأي العام، ومن خلال صحافة منحازة، نصبت نفسها الخصم والحكم، القاضي والجلاد، وأصدرت أحكامها غيابياً.
من المستفيد؟
في كل جريمة، أبحث عن المستفيد. وفي هذه الحملة الضارية على السعودية لا أجد مستفيداً سوى أعدائها التقليديين، وحلفائهم في أمريكا. ولعل أوضح هؤلاء عدوانية اللوبي الإيراني المتغلغل في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الليبرالية والحزب الديموقراطي. ورغم أن أكثر هؤلاء من المهاجرين بعد تغلب الثورة الخمينية، إلا أن ولاءهم لبلادهم يدفعهم للدفاع عنها، فالنظام يتغير والوطن باقٍ. ولعل بعضهم اقنع نفسه بأن توثيق العلاقة مع أمريكا قد يصلح حال النظام ويغلّب التيار «المعتدل» على «المتطرف»، و«الإصلاحي» على «العقائدي». وأبرز منظماتهم «المجلس الوطني الإيراني الأمريكي».
ثم هناك المتطرفون اليساريون والليبراليون في الحزب الديموقراطي والإعلام والجامعات ومراكز البحوث. والغريب، أن يضم هذا التحالف جماعات الإسلام السياسي، كمجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية «كير» «الإخواني»، وقياداتها ومنها نهاد عوض وعلاء بيومي، ورموزها الديموقراطية، النائبتان الهان عمر ورشيدة طليب. ولا ننسى الساسة الذين يتقنون المساومة باستثارة واستغلال الحملات الإعلامية الموجهة لتحصيل فواتير أجنداتها السياسية، والاقتصادية، والأمنية في المنطقة.
العلاقات بين المصالح والشعارات
العلاقات السعودية - الأمريكية لن تتأثر كثيراً بالمماحكات السياسية والإعلامية لرئيس بنى برنامجه الانتخابي على شعارات نخبوية تعلي من شأن القيم الأمريكية وتفرضها على العالم. وكسياسي مخضرم، فهو لا يستطيع أن يغيّر مساره بين ليلة وضحاها، وسيحاول أن يوازن بين الشعاراتية والعملانية، بين العنوان والنص. والسعودية لن تخضع لمساومات على مواقف وسياسات تتصل بأمنها القومي، لمواجهة حملات إعلامية وسياسية الفتها عبر تاريخها الطويل، وانتصرت عليها.
وكل من جاء قبل بايدن فعل مثله، وآخرهم ترامب، وما تصريحاته العدائية ضد السعودية خلال حملته عنا ببعيدة. ولكن مصلحة أميركا، التي انتخب الرئيس لتحقيقها، قبل وفوق كل اعتبار، ستغلب في نهاية المطاف. فواقع حال البشر، والساسة بخاصة، أنه «إذا تكلمنا فكلنا أصحاب مبادئ، وإذا عملنا فكلنا أصحاب مصالح».
وفي تقديري، أن إعادة فتح ملف «خاشقجي» في عهد رئيس ديموقراطي، ثم إغلاقه بعقوبات من قبيل المنع من دخول أمريكا، ضد من تمت معاقبتهم بالفعل بالسجن، والحكم على بعضهم بالإعدام، وبقوانين لمحاسبة اعتداء الحكومات الأجنبية على الصحافيين والمعارضين، ستنهي الجدل المتصل منذ 2018، وتلجم المزايدين على القضية، وتعيدنا إلى السطر الأول: التعاون الاقتصادي، محاربة الإرهاب، مواجهة إيران، وحل القضايا المعلقة: فلسطين، سوريا واليمن.
ويثبت هذا التوجه، تأكيد إدارة بايدن أهمية الشراكة مع السعودية في هذه الملفات، والتزامها أمن الخليج، ومنع حصول إيران على القدرات النووية، وتحجيم دعمها للميليشيات الإرهابية، ومواجهة تهديدها لأمن واستقرار المنطقة.
هذه هي العناوين الرئيسة المتفق عليها. ولكن، سيبقى الاختلاف في الرؤية، كما هو الحال عادة بين الشركاء والحلفاء، حول التفاصيل.
* نقلاً عن صحيفة «النهار العربي» اللبنانية