رسخت صورة مصر الفرعونية في الأذهان على أنها دولة مستقرة ضمن حدودها، يأتيها الآخرون من الخارج ولا تذهب هي إلى أحد. أقدم وثيقة عن رحلة مصرية تعود إلى «السلالة السادسة» (2325 - 2175 ق.م) نحو أواخر العصر الأهرامي. ويروي قصة هذه الرحلة، كما حُفرت على مقبرته في أسوان، رجل يدعى حركوف، وليس ذلك غريباً؛ فكل مصري مرموق في تلك الحقبة كان يميل إلى تخليد ذكراه، من خلال تدوين شيء من سيرته على الحجر، ولم يكن لحركوف إنجاز واحد يدوّنه، بل أربع رحلات ملحمية إلى أرض يام البعيدة، وبسبب صعوبة هذه الرحلات تم تصنيف حركوف على أنه من أهم المستكشفين في العالم القديم.
قام حركوف برحلته الأولى برفقة والده، بناءً على أوامر الملك مينا نارمر، وكان الهدف من البعثة إنشاء طرق آمنة للتجارة وإحضار ما أمكن من الأحجار الكريمة للخزينة الملكية، وتقع أرض يام في أرض السودان الحديث عند أعالي النيل، وللوصول إلى يام كان على حركوف أن يقطع من مدينته «آيو» 900 كيلومتر، على بعد 700 كلم جنوب ممفيس، عاصمة مصر القديمة. ويفاخر حركوف بأن رحلته استغرقت سبعة أشهر، عاد في نهايتها محملاً بالتحف الكثيرة للملك.
سُرّ البلاط بما حققه حركوف بحيث أرسله في بعثة أخرى، لكن هذه المرة بقيادته، وقد استكشف على طريقه جميع الميزات اللافتة للنظر، عائداً إلى مصر بعد ثمانية أشهر، عن النوبة التحتا، واستند علماء المصريات والمؤرخون إلى مشاهدات وانطباعات حركوف في وضع تاريخ النوبة.
وقام حركوف برحلته الثالثة عن طريق أخرى، هي «طريق الواحات» التي لا تزال تتبعها قوافل الإبل إلى اليوم، وتُعرف بـ«درب الأربعين»، وتمتد من واحة غرقة عبر الصحراء الشرقية إلى دارفور، ولكن عندما وصل حركوف إلى أرض يام، اكتشف أن الحاكم خرج في حملة عسكرية ضد بلاد تجمة (جنوب ليبيا اليوم)، ولم ييأس، بل تبعه إلى هناك حيث عقد معه اتفاقات تجارية، وعاد إلى مصر ومعه قافلة من 300 حمار، محمّلة بالمنتجات النادرة من البخور وخشب الأبنوس (الأسود) والزيوت الغالية وجلود الفهود وأنياب الأفيال.
لكن حاكم النوبة اعترض حركوف في طريق العودة، فما كان من حاكم يام إلا أن أرسل إليه فرقة مسلحة تقوم بحراسة عودته.
قام حركوف ببعثته الرابعة إلى يام في الأيام الأولى من حكم الملك الفتى بيبي الثاني نفر كارع، وأكثر ما افتخر به حركوف في حياته أنه تلقى رسالة شخصية من الملك يحثه فيها على أن يحمل بنفسه هدايا معينة من يام، ويأتي بها إلى القصر.
إلى اللقاء...
* كاتب وصحفيّ لبناني - نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية
قام حركوف برحلته الأولى برفقة والده، بناءً على أوامر الملك مينا نارمر، وكان الهدف من البعثة إنشاء طرق آمنة للتجارة وإحضار ما أمكن من الأحجار الكريمة للخزينة الملكية، وتقع أرض يام في أرض السودان الحديث عند أعالي النيل، وللوصول إلى يام كان على حركوف أن يقطع من مدينته «آيو» 900 كيلومتر، على بعد 700 كلم جنوب ممفيس، عاصمة مصر القديمة. ويفاخر حركوف بأن رحلته استغرقت سبعة أشهر، عاد في نهايتها محملاً بالتحف الكثيرة للملك.
سُرّ البلاط بما حققه حركوف بحيث أرسله في بعثة أخرى، لكن هذه المرة بقيادته، وقد استكشف على طريقه جميع الميزات اللافتة للنظر، عائداً إلى مصر بعد ثمانية أشهر، عن النوبة التحتا، واستند علماء المصريات والمؤرخون إلى مشاهدات وانطباعات حركوف في وضع تاريخ النوبة.
وقام حركوف برحلته الثالثة عن طريق أخرى، هي «طريق الواحات» التي لا تزال تتبعها قوافل الإبل إلى اليوم، وتُعرف بـ«درب الأربعين»، وتمتد من واحة غرقة عبر الصحراء الشرقية إلى دارفور، ولكن عندما وصل حركوف إلى أرض يام، اكتشف أن الحاكم خرج في حملة عسكرية ضد بلاد تجمة (جنوب ليبيا اليوم)، ولم ييأس، بل تبعه إلى هناك حيث عقد معه اتفاقات تجارية، وعاد إلى مصر ومعه قافلة من 300 حمار، محمّلة بالمنتجات النادرة من البخور وخشب الأبنوس (الأسود) والزيوت الغالية وجلود الفهود وأنياب الأفيال.
لكن حاكم النوبة اعترض حركوف في طريق العودة، فما كان من حاكم يام إلا أن أرسل إليه فرقة مسلحة تقوم بحراسة عودته.
قام حركوف ببعثته الرابعة إلى يام في الأيام الأولى من حكم الملك الفتى بيبي الثاني نفر كارع، وأكثر ما افتخر به حركوف في حياته أنه تلقى رسالة شخصية من الملك يحثه فيها على أن يحمل بنفسه هدايا معينة من يام، ويأتي بها إلى القصر.
إلى اللقاء...
* كاتب وصحفيّ لبناني - نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية