في الوقت الذي كان فيه فاسكو دي غاما يلتفّ حول «رأس الرجاء الصالح» في إفريقيا، كان البحّارة العرب قد أصبحوا أسياد المحيط الهندي.
قال فاسكو دي غاما في أثناء الرحلة: «سيّدي الملّاح، خلفنا رياحٌ شديدة! إلى متى تظلّ تعصف؟».
«سيدي الأميرال»، أجابه أحمد بن ماجد «ستستمر هذه الرياح شهراً آخر؛ فهي ما تسمّونه أنتم الأوروبيين «منسون»، وهي كلمة متحدرة من كلمة «موسم» العربية. وهذه الرياح الموسمية تعصف بانتظام باتجاه الهند فترة ستة أشهر كل عام. سنبحر معها مباشرة إلى ساحل مالابار». هذه الكلمات التي تفوّه بها القبطان العربي كانت تحديداً ما يريد أن يسمعه القائد البحري البرتغالي؛ ففاسكو دي غاما كان مستعجلاً، وهذا الحديث كان في شهر أبريل من عام 1498. كان دي غاما ورجاله قد التفوا حول «رأس الرجاء الصالح» بحثاً عن طريق بحريّ إلى الهند، وكانوا قد وصلوا إلى ماليندي، تحت منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا، حيث أرغموا على التوقف وإلقاء المرساة؛ وذلك كونهم أول الأوروبيين الذين خاضوا هذه المياه الإسلامية، فلم يتجرؤوا على الإبحار في عرض المحيط الهندي من دون ملّاحٍ خبير يرافقهم.
وكان دي غاما محظوظاً؛ لأنه وجد في ماليندي أبرع ملاحٍ عربي في ذلك العصر. هو أحمد بن ماجد المخضرم الذي أمضى أكثر من نصف قرن في عرض البحر، والذي أبحر في عرض المحيط الهندي كلّه، من الساحل إلى الساحل. بيديه الثابتتين وعينيه السوداوين الثاقبتين، اقتاد السفن عبر أعظم الأنهر: نهر زامبيزي، ونهر تيغريس، ونهر إندوس، حتى إنّ باستطاعته أن يعدّ أسراب الموزمبيق، ويصف أجمل مناظر اليابسة على ضفتي البحر، وكان بارعاً جداً في قيادة الأساطيل في عرض البحر المفتوح من ماليندي إلى ساحل مالابار، إلى درجة أن تجار البلاد العربية والإفريقية الأثرياء كانوا يطلبون خدماته باستمرار. يقول ابن ماجد: «إن الطريق البحري إلى الهند سهل المنال، إن كان للشخص القدرة والشجاعة، والمعرفة العلمية الكافية». وهو كان يتمتع بها كلها.
وبالإضافة إلى ذلك، كان ابن ماجد مستعداً لوضع مهاراته البحرية في خدمة البرتغاليين الذين كان اسمه متداولاً فيما بينهم، حتى إنهم قرؤوا، وهم لا يزالون في أوروبا، كتابه الذي يحمل عنوان «كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد»، الذي أصبح دليل البحّارة المفضّل على نطاقٍ دولي، وكان قد درسه أيضاً دي غاما وضبّاطه، والآن، ها إن كاتبه نفسه ينضم إلى قيادة سفينتهم، متسلحاً بالخرائط العالية التقنية وبرسوماتٍ بيانيّة للمحيط الهندي. كما أنه خطط لهم المسار بين ماليندي ومالابار، وبرهن على أنه قادر على استخدام الأدوات الجديدة نسبياً كالبوصلة والإسطرلاب الذي سبق آلة السدس، وتكلم ابن ماجد عن الاتجاهات والمدّ والجزر والموانئ البحرية الهندية بدقة تدل على خبرة كبيرة، وكشف عن تمتعه بحدس البحّار الذي يخوّله أن يفهم ما تستطيع أن تفعله سفنهم الجديدة كلياً بالنسبة إليه، وما لا تستطيع أن تفعله.
وكانت النتيجة اتفاقاً سريعاً: رفعت المراسي، ونشرت الأشرعة، وانطلق الأوروبيون نحو الهند ومعهم الملاح المسلم يصرخ لهم بالتعليمات في مقصورة القيادة، وقبل أن تشارف الرحلة على النهاية، كان الأميرال والملاح قد طوّرا علاقة احترام متبادل، وتشاركا الأحاديث الطويلة حول المسائل البحرية من خلال المترجم.
إلى اللقاء...
* كاتب وصحفيّ لبناني - نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط»
قال فاسكو دي غاما في أثناء الرحلة: «سيّدي الملّاح، خلفنا رياحٌ شديدة! إلى متى تظلّ تعصف؟».
«سيدي الأميرال»، أجابه أحمد بن ماجد «ستستمر هذه الرياح شهراً آخر؛ فهي ما تسمّونه أنتم الأوروبيين «منسون»، وهي كلمة متحدرة من كلمة «موسم» العربية. وهذه الرياح الموسمية تعصف بانتظام باتجاه الهند فترة ستة أشهر كل عام. سنبحر معها مباشرة إلى ساحل مالابار». هذه الكلمات التي تفوّه بها القبطان العربي كانت تحديداً ما يريد أن يسمعه القائد البحري البرتغالي؛ ففاسكو دي غاما كان مستعجلاً، وهذا الحديث كان في شهر أبريل من عام 1498. كان دي غاما ورجاله قد التفوا حول «رأس الرجاء الصالح» بحثاً عن طريق بحريّ إلى الهند، وكانوا قد وصلوا إلى ماليندي، تحت منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا، حيث أرغموا على التوقف وإلقاء المرساة؛ وذلك كونهم أول الأوروبيين الذين خاضوا هذه المياه الإسلامية، فلم يتجرؤوا على الإبحار في عرض المحيط الهندي من دون ملّاحٍ خبير يرافقهم.
وكان دي غاما محظوظاً؛ لأنه وجد في ماليندي أبرع ملاحٍ عربي في ذلك العصر. هو أحمد بن ماجد المخضرم الذي أمضى أكثر من نصف قرن في عرض البحر، والذي أبحر في عرض المحيط الهندي كلّه، من الساحل إلى الساحل. بيديه الثابتتين وعينيه السوداوين الثاقبتين، اقتاد السفن عبر أعظم الأنهر: نهر زامبيزي، ونهر تيغريس، ونهر إندوس، حتى إنّ باستطاعته أن يعدّ أسراب الموزمبيق، ويصف أجمل مناظر اليابسة على ضفتي البحر، وكان بارعاً جداً في قيادة الأساطيل في عرض البحر المفتوح من ماليندي إلى ساحل مالابار، إلى درجة أن تجار البلاد العربية والإفريقية الأثرياء كانوا يطلبون خدماته باستمرار. يقول ابن ماجد: «إن الطريق البحري إلى الهند سهل المنال، إن كان للشخص القدرة والشجاعة، والمعرفة العلمية الكافية». وهو كان يتمتع بها كلها.
وبالإضافة إلى ذلك، كان ابن ماجد مستعداً لوضع مهاراته البحرية في خدمة البرتغاليين الذين كان اسمه متداولاً فيما بينهم، حتى إنهم قرؤوا، وهم لا يزالون في أوروبا، كتابه الذي يحمل عنوان «كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد»، الذي أصبح دليل البحّارة المفضّل على نطاقٍ دولي، وكان قد درسه أيضاً دي غاما وضبّاطه، والآن، ها إن كاتبه نفسه ينضم إلى قيادة سفينتهم، متسلحاً بالخرائط العالية التقنية وبرسوماتٍ بيانيّة للمحيط الهندي. كما أنه خطط لهم المسار بين ماليندي ومالابار، وبرهن على أنه قادر على استخدام الأدوات الجديدة نسبياً كالبوصلة والإسطرلاب الذي سبق آلة السدس، وتكلم ابن ماجد عن الاتجاهات والمدّ والجزر والموانئ البحرية الهندية بدقة تدل على خبرة كبيرة، وكشف عن تمتعه بحدس البحّار الذي يخوّله أن يفهم ما تستطيع أن تفعله سفنهم الجديدة كلياً بالنسبة إليه، وما لا تستطيع أن تفعله.
وكانت النتيجة اتفاقاً سريعاً: رفعت المراسي، ونشرت الأشرعة، وانطلق الأوروبيون نحو الهند ومعهم الملاح المسلم يصرخ لهم بالتعليمات في مقصورة القيادة، وقبل أن تشارف الرحلة على النهاية، كان الأميرال والملاح قد طوّرا علاقة احترام متبادل، وتشاركا الأحاديث الطويلة حول المسائل البحرية من خلال المترجم.
إلى اللقاء...
* كاتب وصحفيّ لبناني - نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط»