دعوني إحدثكم عن حديث «حمد بن عيسى» عن قراره الذي اتخذه بعودة المنفيين حين تولي زمام الحكم، ومنطلقاته الفكرية التي دفعته لاتخاذ هذا القرار كما رواها بنفسه ودونها الدكتور الأنصاري في دفتر ملاحظاته لا كما نعرفه كتسوية سياسية وتمهيد لبيعة جديدة.

يقول جلالة الملك «هكذا تركت فكرة «الإبعاد» عن الوطن من قبل الأجنبي أعمق آثار الألم في النفس منذ الطفولة وقد تعمق لدينا هذا الألم شخصياً وإنسانياً عندما أدركنا في سن مبكرة أيضاً أن جدنا من ناحية الأم الشيخ سلمان بن إبراهيم آل خليفه قد تم نفيه مع والده كذلك من البحرين إلى قطر حيث ولدت الوالدة الكريمة رحمها الله وطيب ثراها.

هناك بعيداً عن الأسرة وشمل الأهل مما غرس في النفس البذرة القوية بعودة كل مبعد عن وطنه، وعندما حانت لحظة القرار بتولينا المسؤولية الأولى في البلاد كان أول ما بادرنا إليه عودة جميع المبتعدين البحرينيين سياسياً إلى بلدهم وأهلهم في ظل مبدأ وقانون العفو العام إذ سيبقى من أجمل ما قيل في أدب الأوطان «الوطن هو هذه العودة المنتظرة بعد الاغتراب» ويقيني أن حرصي على تقليص أيام بعدي عن البحرين في الخارج في أية سفرة أو إجازة مرده هذا الشعور العميق الذي تأصل في النفس منذ الطفولة كان قرارنا هذا بانفتاح صدر الوطن لكل أبنائه بلا استثناء أملاً عزيزاً راودنا من عهد الصبا وخطوة للأمام للبناء على المسار الراسخ لتاريخنا الوطني، الذي كان حلماً راود الآباء والأجداد الذين أوصونا باتخاذه في اللحظة المناسبة» صفحة 17 من كتاب سلسلة أحاديث في الوعي الوطني انتهى الاقتباس

هناك إذاً بعد شخصي في القرار أكثر منه بعداً سياسياً، التجربة التي عاشتها والدته طيب الله ثراها نقلتها له بألمها بمعاناتها استمع لها طفلاً وشاباً يافعاً، حكت له كيف أجبر الإنجليز أباها وجدها على الخروج من البحرين، وكيف ولدتها أمها بعيداً عن أهلها، الاغتراب موحش خاصة حين يكون الابتعاد قراراً صادراً من أجنبي، لهذا عقد العزم على إعادة كل مغترب بحريني إلى وطنه، وجعله هذا الشعور كذلك يقلص كل ابتعاد عن البحرين في سفره.

تلك الأريحية التي عبر عنها جلالته شرحت ذلك البعد الإنساني في قراره بعودة المنفيين، بعداً كان لابد أن يقدر ويثمن ويقيم من قبل كل من استفاد من ذلك القرار التاريخي ليعيد رسم الصورة كاملة مضافاً لها هذا الحس الإنساني وهذه المشاركة بالمعاناة والألم والفهم العميق للابتعاد جبراً عن موطنك.

من يجمع هذا البعد المخفي مع صورة جلالة الملك وهو يلتقي بأنباء شعبه بعد عودة المنفيين في الريف وفي المدن، ويلتقيه الناس بذلك الشغف والاندفاع بمحاولة رفع سيارته عن الأرض، يعلم أنها علاقة عفوية فطرية طبيعية إنسانية، فلا يمكن أن تنفصل هذه الصورة عن صورة البيعة الثانية حين صوت الشعب على الميثاق كما لا يمكن أن تنفصل عن قرار التعديلات الدستورية.

هي صورة واحدة تعود لذات الإنسان الذي شعر بألم الاغتراب مع مواطنيه وهو ذاته الذي بحث عن الضمانات الدستورية التي لا تعيد تكرار حالات الانقطاع المتكررة وتضمن للتجربة البرلمانية الاستمرارية.

ولكن لحظة الوحدة التاريخية والانصهار تلك التي حدثت بين الحاكم والشعب كانت مخيفة ومرعبة وتهدم أحلام الطواويس وتقطع عليهم الطريق فكان لابد من تشويه تلك اللحظة ومنعها من الاستمرار فحدث ما حدث، حيث تم فصل تلك اللحظة الروحانية وذلك البعد الإنساني من القرارات التي أعادت الروح للبحرين، وتم تشويه المقاصد والمعاني واجتزاء المشهد، وعضت اليد التي امتدت لك رحمة وحباً.

مرت الأيام والبحرين ماضية في طريقها ولله الحمد، وحمد بن عيسى هو هو لم يتغير ولم يتبدل، بل بالعكس هذا الحديث الذي أفاض به جلالته حفظه الله للأنصاري في السنوات التي تلت التصويت على الميثاق، يؤكد أننا أمام حاكم لم ينوِ غير الخير لشعبه ومازال- حفظه الله ورعاه- حامياً ومحباً له، وجزاه الله خير الجزاء، لأنه فكر وجمع بين عنصري الضمانات الدستورية والضمانات الإنسانية الصرفة في اتخاذ قرارات بتلك الأهمية، وشعب البحرين يقدّر جداً تلك المعاني وذلك الحديث الأريحي الذي ذكر فيه تلك المعاناة الذاتية وذلك الألم الذي ألمّ به.

والسلسلة حافلة بالأحاديث الخاصة التي تفتح آفاق الحديقة الخلفية لكل قرار تم اتخاذه.